الدويلات الخليجية والصراع الإنجلو أميركي
أحمد الخطواني
ما زالت منطقة الخليج محلًا لصراع دائم لا يتوقف بين القوى الدولية الاستعمارية، وما زالت تُستخدم كأدوات رخيصة في ذلك الصراع، فلقد أقامت بريطانيا تلك الدويلات المـُصطنعة في الخليج بعد أن سيطرت عليها ما يزيد عن المائة عامٍ تحت مسميات ممالك وإمارات وسلطنات، ونصّبت عليها أسرًا مُتمرّدة على شعوبها، مُتعاونة مع أعداء أمّتها، مُعادية لدولة الخلافة العثمانية التي كانت تُمثّل حاضنتها ورمز إسلاميتها.
لقد أخلصت هذه الأسر العاقّة لأمتها أيّما إخلاص للبريطانيين الكفار المستعمرين الذين استعانوا بها في إسقاط الدولة الإسلامية، وفي محوها من الوجود، ثمّ تمّت مُكافأتها بتحويلها إلى أنظمة حكم وراثية استبدادية تسلطية تحت مسمّى محميات رسمية تابعة للتاج البريطاني لمدة طويلة من الزمن، وتمّ فرضها على شعوب المنطقة كأمرٍ واقع، وبذلك استقر النفوذ البريطاني في الخليج، وضرب جذوره في جميع دويلاته الزائفة.
وبعد انسحاب بريطانيا عسكريًا – بضغط أميركي – من الخليج في نهاية ستينات وأوائل سبعينات القرن الميلادي الماضي، بقيت مُحتفظة بقدر كبير من النفوذ فيها؛ حيث استمرت الصلات الوثيقة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية…
وبعد بروز أميركا كقوة أولى في العالم، اعتمدت بريطانيا على عملائها للحفاظ على نفوذها، وخاصةً بعد اقتحام أميركا للمنطقة بكل ثقلها، ومُحاولة الاستحواذ عليها لأهميتها الاستراتيجية، ولما فيها من ثروة نفطية هائلة، فاندلع صراع سياسي عنيف بين الدولتين في الخليج، وتشبثت بريطانيا بكل مناطق نفوذها أمام الهجمة الأميركية الشرسة عليها، واستعانت برجالها المـُدرّبين ممّن قامت بريطانيا من قبل بتربيتهم على طريقتها لصد تلك الهجمة الاستعمارية الأميركية الكبرى عليها.
إلاّ أنّ أميركا استمرت في هجمتها، واستخدمت قواها الاقتصادية والسياسية في حدودها القصوى، وركّزت على السعودية بشكلٍ خاص لما لها من ثقل ووزن كبيرين في المنطقة، ولما فيها من إمكانية للاختراق أكثر من غيرها من المشيخات والإمارات الصغيرة، فكان ذلك الاجتماع المشهور بين الرئيس الأميركي روزفلت والملك عبد العزيز في قناة السويس على متن الطراد الأميركي كوينسي بمثابة نقطة تحوّل واختراق، تمكّنت بعده أميركا من وضع رِجلٍ لها في المنطقة، واستطاعت بها خلخلة النفوذ الإنجليزي في السعودية، وكسر احتكاره، وأصبح نفوذها منذ ذلك الحين موازيًا للنفوذ الإنجليزي، ومن ثمّ تقاسمت الدولتان السيطرة على السعودية مناصفةً بشكلٍ تقريبي، فتارة تحكمها أميركا مع بقاء النفوذ البريطاني فيها، وتارة تحكمها بريطانيا مع بقاء النفوذ الأميركي فيها، فمثلًا تمكنت أميركا من أخذ السعودية من الإنجليز في عهدي الملكين سعود وفهد، إلاّ أنّها لم تستطع الاحتفاظ بها طويلًا، إذ تمّ إسقاط سعود على يد فيصل العميل الإنجليزي العريق، ومن ثمّ أعيد الحكم إلى عملاء بريطانيا، ثمّ بعد ذلك جاء فهد وهو عميل أميركي قوي للحكم، ولكن بعد موته عادت السعودية إلى حضن الإنجليز على يد عميلهم عبد الله، ثمّ عاد مؤخرًا عملاء أميركا إلى السلطة بعد موت عبد الله من خلال سلمان، ولكن هذه المرة يبدو أنّهم رفضوا فكرة المناصفة والمحاصصة وتبادل الأدوار من البريطانيين، وقرّروا الاستحواذ على السلطة كاملة، فقام سلمان بانقلاب كامل بكل معنى الكلمة على نفوذ الإنجليز، فأبعد جميع رجالهم من مراكز صنع القرار، واستفرد هو وابنه محمد بالسلطة بشكلٍ مُطلق، ولم يتركا أي مُنافس لهما حتى ولو كان عميلًا أميركيًا كمحمد بن نايف، وبذلك التنظيف الشامل للبلد من كل أتباع الإنجليز، ومن كل المنافسين المحتملين، تحوّلت السعودية إلى ما يُشبه القاعدة الأميركية في منطقة الخليج، فخافت بريطانيا منها على محمياتها الخليجية الأخرى، وراحت تبحث في كيفية تثبيت نفوذها فيها، وفي كيفية مواجهة النفوذ الأميركي المتعاظم في السعودية، وهكذا دخلت منطقة الخليج في دوّامة صراع جديد لم تعهده من قبل.
لقد استطاعت بريطانيا أنْ تُحافظ على جميع دُويلاتها في الخليج منذ تأسيسها وحتى الآن باستثناء السعودية، بالرغم ممّا تُقدّمه هذه الدويلات لأميركا من قواعد وتسهيلات مداراةً لها، وتفسير ذلك يتلخص في أنّ الحكام هم الذين يُحوّلون الدول من تبعية دولة لتبعية دولة أخرى، وليست القواعد ولا التسهيلات. وحكام هذه الدويلات لا يملكون قرارهم؛ فلا يستطيعون تبديلًا ولا تغييرًا. وكذلك شعوب تلك البلاد قد لا تملك القدرة على الثورات والتمرد لقلة عدد سكانها؛ لذلك كان من الصعب على أميركا اللعب بهذه الورقة.
صحيح أنّ أميركا تستفيد من إثارة القلاقل في البحرين مثلًا بسبب وجود أكثرية (شيعية)، وتستغل التدخل الإيراني المدعوم أميركيًا بشكلٍ غير مُباشر، والذي يعمد بطائفيته المصطنعة للدفاع عن المظلومين من الشيعة فيها لحمل الحكومة على الخضوع للإملاءات الأميركية، لكنّ النفوذ الأميركي بشكل عام لم ينجح في اختراق القاعدة السياسية للحكم التابع لبريطانيا، لا في البحرين، ولا في غيرها من هذه الدول الخليجية باستثناء السعودية، ففي قطر والكويت والإمارات وعُمان ما زال النفوذ البريطاني هو المهيمن بشكل شبه مطلق.
وتقوم بريطانيا حديثًا بتثبيت وتقوية نفوذها في هذه الدول بكل ما أوتيت من إمكانيات، فرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في زيارتها مؤخرًا للخليج قالت بصراحة: «أمن الخليج هو أمننا، وينبغي أن نستمر في مواجهة الدول التي يغذي نفوذها الاضطراب في الإقليم»، وأطلقت ما اعتبرته: «شراكة استراتيجية بين الجانبين؛ لتعزيز علاقات أوثق في كافة المجالات، بما في ذلك السياسية والدفاعية والأمنية والتجارية»، وفي كانون الأول/ديسمبر 2014م، أعلنت لندن والمنامة عن إقامة قاعدة عسكرية بريطانية جديدة في البحرين، وأقامت قاعدة عسكرية برية من خلال مجموعة معسكرات في سلطنة عُمان، وأجرت تدريبات عسكرية بين الإمارات وبريطانيا تحت اسم «خنجر البحر»، وتُجري باستمرار مُناورات جوية وبحرية وبرية مع قطر، فبريطانيا إذًا لم تغادر المنطقة عمليًا حتى بعد إعلان الاستقلال لهذه الدول، وبعد زوال الانتداب الرسمي لها، وإنّما غيّرت شكل استعمارها فقط.
وهي، أي بريطانيا، تستخدم قطر والكويت وعُمان والبحرين والإمارات استخدامًا مُناسبًا حسب الظروف، فبعد أنّ طُوّقت قطر من قبل السعودية، اتجهت نحو توظيف الإمارات كمخلب قط لها في اليمن، فتمدّد الدور الإماراتي مثلًا في اليمن خلال العامين الماضيين بسرعة خاطفة أوجد لها مليشيات وأتباعًا باتوا يُشكّلون أمرًا واقعًا لا يمكن تجاوزهم في أي حل مستقبلي، وتحوّلت لندن بفعل هذه القوة الجديدة التابعة للإمارات إلى عاصمة لطبخ المؤامرات واستقبال ممثلي القوى العاملة في اليمن، ومن ثمّ تم اختيار مبعوث أممي بريطاني لليمن.
وأمّا في المجال الاقتصادي، فإنّ الاستثمار الخليجي في بريطانيا يكشف عن أرقام فلكية، إذ إنّ إجمالي الاستثمارات الخليجية في بريطانيا تفوق المائة وثلاثين مليارًا، فيما يزيد حجم المبادلات عن الثلاثين مليارًا.
فمصالح بريطانيا إذًا في الخليج كبيرة، لذلك كان الصراع عليه مع أميركا أمرًا بديهيًا، وإنّ نجاح أميركا في السيطرة على السعودية جعل بريطانيا تستميت في الاحتفاظ بنفوذها المطلق في سائر دول الخليج، وجعلها تُوسّع نفوذها، وتزيد تمتينه، وتُعيد ما أسمته رئيسة الوزراء البريطانية بــ (الشراكة الاستراتيجية) مع دول الخليج خاصة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي؛ ليكون العنوان الأبرز للنفوذ البريطاني في أهم بقاع العالم، بينما يتآمر حكام الخليج ومعهم حكام المسلمين، ويغطون في سبات عميق، فلا يدركون أهمية الصراع الدولي على مناطقهم، ولا يعنيهم شيءٌ سوى تثبيت عروشهم.