مع القرآن الكريم
( وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ يَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٢٣١ وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢٣٢).
يبين الله سبحانه في هاتين الآيتين ما يلي:
-
إذا طلق الرجل زوجته طلقة أو طلقتين ثم قاربت عدتها أن تنتهي، فعليه إما أن يراجعها ويعيدها لعصمته بالمعروف رغبة بزوجته في حسن صحبة وحسن معاشرة، أو يتركها حتى تنقضي عدتها فتملك نفسها ويكون تسريح جميل دون مضايقة أو إزعاج.
ويحرم الله على الزوج أن يمسك زوجته إضرارًا بها فيراجعها، ليس رغبة فيها بل ليطيل مضايقتها ومنعها من أن تقضي عدتها وتملك نفسها؛ وذلك ليضطرها إلى أن تعطيه من حقوقها عليه حتى يطلقها، ويكون الزوج بذلك ظالمـًا لنفسه بتعريضه هذه النفس إلى عقاب الله في الآخرة، فضلًا عن كشف سوء خلقه على الناس باعتدائه على حقوق زوجته والإضرار بها.
ثم يحذر الله سبحانه الأزواج من التلاعب في آيات الله وأحكامه فيسيئوا التصرف في حقّ الرجعة الذي جعله الله لهم ويستعملوه في إرجاع المرأة لمضارتها، وليس لمعاشرتها بالمعروف برغبة فيها.
ويذكرنا الله تعالى بنعمة الإسلام التي أنعمها علينا في كتابه الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لنشكره عليها ونلتزم شرعه سبحانه ونعتبر ونتعظ بآياته وأحكامه.
ثم يختم الله سبحانه الآية الكريمة بالأمر بالتقوى؛ فنخشى الله في كلّ ما نقوم به من فعل أو قول، والله سبحانه لا تخفى عليه خافية فهو سبحانه ( بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٢٣١) وفيه تحذير لمن يحيدون عن شرع الله في معاشرة أزواجهم.
(فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ) أي آخر عدتهن؛ حيث الأجل حقيقة في كلّ المدة كما ورد في الصحاح، وكذلك حقيقة في الجزء الأخير، كما نقل الأزهري أي هو مشترك، وتحديد المعنى المراد يتوقف على القرينة، وهي هنا (فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ) وهذه تدل على آخر مدة العدة؛ لأن الزوج لا يملك أن يمسك زوجته أي إرجاعها إلا في العدة، فإذا انتهت فليس له ذلك.
ويكون المعنى(فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ) أي آخر عدتهن، وقبل أن تنتهي.
(فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ ) أي إذا أوشكت عدتهن على الانتهاء؛ فإما أن تراجعوهن فتمسكوهن، أو تتركوهن حتى تنقضي العدة؛ وبذلك تسرِّحوهن ويصبحن مالكات أنفسهن.
وهذا كله في طلاق الرجعي (ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ ) فهو الذي يجوز للزوج أن يراجعها في العدة.
(وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ) أي ترجعوهن للإضرار بهن؛ وذلك كأن يكون الزوج لا يريد زوجته، ولكن يريد أن يطيل عليها مدة بقائها دون تسريح حتى يضطرها لإعطائه من حقوقها، ويكون بذلك قد اعتدى على حقوقها.
(ضِرَارٗا) أي تطويلًا لمدة بقائها عنده دون تسريح مضارةً لها.
(لِّتَعۡتَدُواْۚ) أي لتلجئوهن لإعفائكم من حقوقهن؛ لأجل أن يطلَّقن منكم ويسرَّحن.
(وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ) أي الإسلام، فاشكروا الله على ذلك والتزموا شرعه.
(وَمَآ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ) أي ما أنزل عليكم من القرآن والسنة وهو عطف بيان لما قبله (نِعۡمَتَ ٱللَّهِ).
-
وفي الآية الثانية (وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ) يبيِّن الله سبحانه حكمًا آخر يتعلق بالمطلقات عند بلوغ الأجل.
ففي الآية الأولى بيان عدم إمساك الأزواج زوجاتهن إضرارًا بهنَّ ليعتدوا على حقوقهنَّ بإلجائهنَّ إلى التنازل عن حقوقهنَّ.
أما في هذه الآية؛ فإن الله سبحانه يبيِّن حكمًا آخر، وهو أن المطلقات إذا أكملنَ العدة، ثم بعد ذلك رغب أزواجهنَّ الأوائل في خطبتهنَّ من جديد، ويريدون الزواج منهنَّ بعقد ومهر جديدين، وذلك بعد الطلقة أو الطلقتين، فإن الله سبحانه في هذه الحالة يأمر أولياءهن أن لا يمنعوا هذا الزواج ما دام الرجل ومطلقته يريدون ذلك برغبة صادقة ظاهرة عليهم ضمن أدب الإسلام.
ثم يبيِّن الله سبحانه أن الموافقة على هذا الزواج أعظم بركةً ونفعًا، وأبعد عن الآثام والريب التي قد تصاحب عدم الموافقة على الزواج.
ويختم الله الآية الكريمة بأن حقائق الأمور لا يعلمها إلا الله سبحانه، فقد يحبّ المرء أمرًا ونتائجه شرّ، وقد يكره أمرًا ونتائجه خير، فقد يظن الأولياء أن زواجًا ما فيه خير أو فيه شرٍ والحقيقة ونتائجها غير ذلك، ولكن الله سبحانه هو الذي يعلم حقائق الأمور ونتائجها وخيرها وشرها، فاتّباع شرع الله فرض، وهو الخير كلّ الخير (وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ( ٢٣٢)).
(وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ) أي فأكملنَ عدتهنَّ؛ وذلك بقرينة (فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ) لأن الزوج يملك مراجعة زوجته خلال العدة دون ممانعة. وحيث هناك إعضال – أي منع – فهذا يعني أن (أجلهنَّ) هنا حقيقة في المدة كاملة. وأصل (العضل) الحبس والتضييق، والمعنى: وإذا طلقتم النساء فأكملن العدة فلا تمنعوهن من الزواج ممن طلقوهن طلقة أو طلقتين.
(إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ) أي إذا كانت لهم الرغبة الصادقة في العودة لبعـضـهما بزواج جديد، وكانت هذه الرغبة ظاهرة عليهما بالمعروف أي في حدود آداب الإسلام.
(ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ ) أي موافقة الأولياء على تزويج المطلقة لزوجها السابق ما دامت تريده ويريدها، هذا الأمر أكثر بركة ونفعًا وأبعد عن الآثام والريب.
أخرج البخاري في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن معقل بن يسار قال: «كانت لي أخت، فأتاني ابن عم لي فأنكحتُّها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب، فقلت له: يا لكع، أكرمتُّك بها وزوجتُّكها فطلقتَها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال: ففيَّ نزلت، فكفرتُ عن يميني وأنكحتُها إياه» (البخاري) وفي لفظ «فلما سمعها معقل قال: سمعًا لربي وطاعة. ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك» (الدر المنثور).
وهي عامة في موضوعها تشمل من نزلت فيهم وغيرهم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في الموضوع نفسه، كما هو معروف في الأصول.