دولة الخلافة وما يسمى بالأقليات (7):
مزاعم عن “غلظة” الإسلام تجاه أهل الذمة
ياسين بن علي
يورد أصحاب هذه المزاعم بعض النصوص الشرعية من الكتاب والسنة فيها غلظة على اليهود والنصارى وعلى الكفار عموماً، ويقولون بأن هذه النصوص تؤسس لجو من الكراهية ضد غير المسلمين، فكيف يقال بأن الإسلام أنصف أهل الذمة وعاملهم بالحسنى؟ والحقيقة أن النصوص المذكورة توضع في غير موضعها من قبل هؤلاء، وهذه النصوص قسمان: قسم يتحدث عن الصراع الفكري بين الإسلام وغيره من الأفكار والأديان، وهنا تتحدث النصوص الشرعية بكل صراحة عن صحة الإسلام وحده وعن فساد كل ما سواه من أديان ومعتقدات وأفكار وما يستلزم ذلك من تمايز فكري وشعوري. وهذا أمر طبيعي وهو موجود في كل دين ومبدأ، فالإسلام يرى أنه الحق المطلق وأنه من عند الله، ولذلك لا يتصور أن يقف من الأديان الأخرى والأفكار الأخرى موقف الموافقة والرضا. غير أن الإسلام يقف موقفاً خاصاً من أهل الكتاب فهو وإن كان يعد اليهود والنصارى كفاراً ويخوض معهم صراعاً فكرياً مريراً في آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنه في الوقت ذاته يجيز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، وهذا يؤكد أن القضية ذات بعد فكري ولا ينبغي أن تؤثر على معاملتهم باعتبارهم الإنساني. والقسم الثاني يتحدث عن أعداء الإسلام من الكفار الذين يخوضون ضد الإسلام حرباً مادية ويقاتلون المسلمين، وهؤلاء لهم أحكام تختلف عن أحكام أهل الذمة لأنهم محاربون، فلا يصح أن تطبق النصوص الشرعية التي تتحدث عن مثل هؤلاء على أهل الذمة لاختلاف واقعهم. وقد أوردنا اقتباسات كثيرة تبين أن المسلمين كانوا مدركين للفرق بين أهل الذمة وسائر الكفار المحاربين. واللافت أن هؤلاء يهملون كافة النصوص الشرعية التي تحض المسلمين على معاملة أهل الذمة بالحسنى وتوجب رعاية شؤونهم.
وهكذا يتبين أن الإسلام طلب الإحسان في معاملة أهل الذمة، وأن ما أثير من شبهات فهي لم تؤخذ على وجهها الصحيح.
حقوق الأقليات الدينية «أهل الذمة»
قلنا إن طبيعة الإسلام تتناقض مع فكرة الأقليات، وخصوصاً الأقليات العرقية واللغوية لأنه يجعل الرابط بين المسلمين العقيدة الإسلامية التي تقضي بذوبان الفوارق العرقية واللغوية، ولكن يوجد في الإسلام مفهوم أهل الذمة الذين يعيشون في الدولة الإسلامية، وهؤلاء يعدهم البعض أقليات دينية ويطالب بإعطائهم حقوقهم. ويخوف المناهضون لحكم الإسلام الرافضون لقيام دولة الخلافة من ضياع حقوق هذه الأقليات الدينية في ظل هذه الدولة وخصوصاً منها حقوقهم السياسية، ويعدون ذلك سبباً كافياً ومقنعاً لجعل الدولة العلمانية المدنية الديمقراطية حيث ينعم الجميع بحقوق المواطنة بعيداً عن التمييز الديني بديلاً عادلاً لدولة الخلافة الإسلامية التي تحكم بالشرع الإسلامي وتقوم على أساس الدين ولا تحفظ حق المواطنة. ويبدو هذا الطرح للوهلة الأولى صحيحاً ومنطقياً، ولكن بالتعمق فيه يظهر ما فيه من تضليل وتدليس. وللوقوف على ذلك ينبغي أن نبين أن الأقلية الدينية حسب تعريفهم هي أقلية يجمعها جامع ديني يميزها عن غيرها أي أن الوصف الذي يجعلهم أقلية هو وصف ديني، وبناء على هذا الوصف الديني المميز ينبغي أن تثبت لهم حقوق في المجتمع والدولة. والسؤال الذي يجب أن يطرح في هذا السياق هو: ما هي الحقوق التي يجب أن توفر للأقلية الدينية على نحو يذهب التمييز بينهم وبين الآخرين ويجعلهم كسائر الرعية؟ والجواب على هذا السؤال يجب أن ينصب على الحقوق الدينية التي بها اختلفت الأقلية الدينية عن غيرها، أي أن هذه الحقوق ينبغي أن تكون بالدرجة الأولى ذات طابع ديني لأن الأقلية اكتسبت صفتها وخصوصيتها المقتضية لهذه الحقوق بسبب الدين. فمن الحقوق الدينية عدم إكراههم في الدين وعدم فتنتهم عن دينهم وتمكينهم من العبادة وإقامة الشعائر وفق أحكام دينهم، وغير ذلك مما هو مرتبط بأمر الدين. وقد جاء الإسلام بمفهوم أهل الذمة الذي يوفر لغير المسلمين في الدولة الإسلامية كامل حقوقهم الدينية على نحو يمكنهم من ممارسة دينهم وما تمليه عليهم معتقداتهم الدينية من غير إكراه، بل وزاد على ذلك حقوقاً تتعلق بالزواج والطلاق والمطعومات والملبوسات على ما هو مفصل في الفقه الإسلامي. ثم إن لأهل الذمة في الدولة الإسلامية أن يتمثلوا في مجلس الأمة، ويكونوا نواباً فيه عن منتخبيهم ليبدوا الرأي نيابة عنهم في إساءة تطبيق أحكام الإسلام عليهم، وفيما يلحقهم من ظلم الحاكم.
ولذلك فإن أهل الذمة لا تهضم حقوقهم الدينية ولا يظلمون، بل ينعمون بحياة آمنة كغيرهمم من المسلمين، ولا يلاحقون لأنهم أهل ذمة، وإنما الذين يلاحقون في دولة الخلافة هم أصحاب الأفكار والأيديولوجيات المستوردة من الغرب المعادية للأمة ودينها، وهؤلاء منهم من أصله مسلم ومنهم من هو غير مسلم. وهكذا فإنه لا ضياع لحقوق الأقليات الدينية، وإنما قصدُ الذين يثيرونها هو اتخاذها وسيلة لزرع الفرقة بين المسلمين وغير المسلمين في البلاد الإسلامية، مع أن أهل الذمة من النصارى واليهود وغيرهم عاشوا بين المسلمين ومعهم قروناً طويلة دون أن يهضم لهم حق أو يقصوا من المجتمع أو يحال بينهم وبين السلطان أو يشعروا بغربة عن المجتمع وأهله وعن الدولة.
ألا فليعلم الجميع أن حكم الإسلام قادم لا محالة لأنه لا نجاة للمسلمين ولا للبشرية كلها من ظلم الرأسمالية والعلمانية وأهلهما إلا بالإسلام، وحينها سيعلم أهل الذمة أن الخير كل الخير في العيش في ظل دولة الخلافة وسيندمون على كل لحظة عاشوها في الدولة العلمانية وقبلوا أن يخوفوا من الإسلام وحكم الإسلام وأن تستغل قضيتهم من قبل الليبراليين واليساريين والمستعمرين لتكون حجر عثرة في وجه عودة دولة الإسلام.
توظيف مفهوم «الأقليات» لتمزيق الدول
قال كليمنصو رئيس وزراء فرنسا في مذكراته: «كان أصدقاؤنا الإنجليز أسبق منا في التنبه إلى موضوع الأقليات المذهبية والعرقية في بلاد المشرق العربي، وقد اتفقت وجهتا نظرنا كلياً حول هذا الموضوع». وقال ناحوم جولدمان رئيس الرابطة اليهودية العالمية في خطابه بباريس بمؤتمر اليهود المثقفين عام 1968م: «إذا أردنا لإسرائيل البقاء والاستقرار في الشرق الأوسط علينا أن نفسخ الشعوب المحيطة بها إلى أقليات متنافرة تلعب إسرائيل من خلالها دوراً طليعياً وذلك بتشجيع قيام دويلة علوية في سوريا، ودويلة مارونية في لبنان، ودويلة كردية في شمال العراق».
ونشرت مجلة القوات المسلحة الأميركية (في 6/2006 م) تقريراً كتبه «رالف بيترز» الكولونيل السابق في الجيش الأميركي تحدث فيه عن تقسيم الشرق الأوسط من جديد وإقامة دولة كردية تقتطع أجزاء من العراق وإيران وتركيا وسوريا ودولة شيعية في جنوب العراق وإيران ومناطق أخرى من السعودية والإمارات والكويت والبحرين، ودولة مارونية درزية في جبل لبنان، وزيادة مساحة الأردن على حساب السعودية، حتى يتم تفكيك الدول الكبيرة مثل تركيا وإيران والسعودية ثم يأتي بعد ذلك الدور على مصر والسودان والمغرب.
وإذا عدنا إلى التاريخ قليلاً، أي قبل أن تسقط الدولة العثمانية، سنجد أن الدول الغربية استخدمت ورقة خلق الأقليات والدفاع عن حقوقها ونصرتها لتحقيق مصالح استعمارية. جاء في كتاب «صحوة الرجل المريض» ما يلي مما يجلي ما حصل في الدولة العثمانية:
«لقد كان التسامح العثماني هو النافذة التي دخل منها التدخل الأجنبي لتغذية الخلافات وإشعال نار الفتن وتبرير الحماية إزاء تدهور الأوضاع في السلطنة العثمانية خلال القرن التاسع عشر حين ازداد تأثير الدول الأوروبية ومداخلتها المباشرة في أوضاع الأقليات ولا سيما المسيحية منها بهدف إحراز المزيد من النفوذ والمكاسب في تركة «الرجل المريض» الذي قرب أجله. ونتيجة لدعم أوروبا نشطت الحركات الانفصالية القومية في الأجزاء الأوروبية من السلطنة، واستقلت رومانيا وبلغاريا وصربيا (يوغسلافيا) وألبانيا واليونان، كما احتلت بريطانيا قبرص ثم انتقل الهجوم الأوروبي إلى شمال أفريقيا فسقطت الجزائر والمغرب وتونس وليبيا ومصر والسودان ولم يبقَ إلا الأقاليم الأسيوية، فبدأت الضغوط الدبلوماسية الأوروبية لتغيير أوضاع المسيحيين واليهود فيها، وحصل عدد من هؤلاء على الجنسيات الأوروبية مما منحهم حق الحماية بموجب شروط «الامتيازات الأجنبية» التي بدأتها فرنسا منذ القرن السادس عشر بحق حماية المسيحيين الأوروبيين في الدولة العثمانية وما لبثت أن اتسعت تدريجياً حتى أصبحت الاتفاقيات تشمل فعلياً جميع الكاثوليك وضمنهم موارنة لبنان التابعين للبابوية. وفي أواخر القرن الثامن عشر طالبت روسيا القيصرية بحقوق مماثلة وأصبحت حامية الأرثوذكس في الدولة العثمانية، ثم أظهرت النمسا وبعدها إيطاليا اهتمامها بالكاثوليك اللاتين وغيرهم من الفئات الدينية المسيحية، كما اهتمت بريطانيا بالمسيحيين عموماً وعقدت صداقات حميمة مع الدروز في لبنان وسوريا واليهود في فلسطين… وقطف المجتمع العثماني أول ثمار تلك الحماية والرعاية والعناية حينما اندلعت نيران الفتنة الطائفية في لبنان والشام أعوام 1840م و1860م، ثم بعد ذلك في 1958م و1975م، ومازال لبنان ينعم بخيرات الحماية والرعاية الأجنبية حتى اليوم…»!
وقد توسلت الدول الغربية لتحقيق أهدافها بالبعثات التبشيرية التي كان ظاهر عملها دينياً وباطنه ثقافياً وسياسياً، وبالقنصليات التي كانت تقف وراء أغلب الفتن التي حصلت في بلاد المسلمين وخصوصاً في بلاد الشام. تقول الدكتورة سوسن إسماعيل -كما في مقال الحل الإسلامي لمشكلة الأقليات للدكتور محمد مورو-: «وجه المبشرون الأوروبيون اهتمامهم إلى البنية المسيحية في الشام مثيرين الخلافات في طبقاتها وأصل مذاهبها، وإن المنافسة بين البروتستانت وبين المبشرين اليسوعيين ألقت في البلاد فتناً ومنازعات مذهبية واجتماعية، وقد تبارى المبشرون البروتستانت واليسوعيون في خلق هذه الاضطرابات بين الطوائف المسيحية ذاتها». وتضيف قائلة: «منذ بداية القرن التاسع عشر غدت القنصليات الأجنبية في ولايات الشام أوكاراً للدسائس والفتن وإثارة الاضطرابات عن طريق تحريض الطوائف الدينية وترويج الشائعات التي كانت تسبب الفتن الطائفية». ثم تلخص سياسة اللعب بورقة الأقليات فتقول: «عمدت السياسة الأوروبية إلى ترسيخ قدمها في المنطقة عن طريق غرس بذور الخلاف بين الطوائف مستعينة بالإرساليات الدينية والتعليمية».
ولم يكن الوضع أحسن حالاً في مصر، فقد سار الإنجليز على المنوال نفسه فزرعوا في مصر الأحقاد الطائفية ورعوا مؤتمرات للأقباط من أجل بث روح الفرقة، يقول سالم سيدهم -كما في مقال الحل الإسلامي لمشكلة الأقليات للدكتور محمد مورو- وهو قبطي في حق أحد الأقباط الذين ساهموا في بث روح الفرقة: «هذا أحد صنائع الإنجليز في مصر والآلة التي يحركها الاحتلال»، وأضاف «إن إنجلترا تستخدم الخونة الذين لا ضمير لهم لقتل الروح الوطنية».
وبعد سقوط الدولة الإسلامية وتقسيمها إلى دويلات هزيلة على أساس قومي أو طائفي، استمرت الدول الاستعمارية الغربية في اللعب على مسألة الأقليات، فأثارت أهل الجنوب في السودان على أساس وجود أقليات غير مسلمة، والانفصال قد تحقق الآن فعلياً، وأثارت النعرات العرقية والجهوية ودعمت الانفصاليين في دارفور وكردفان وغيرها من المناطق. وأوجد الاستعمار مشكلة الأكراد في شمال العراق منذ نهاية خمسينات القرن الماضي. ومنذ منتصف ثمانينات القرن الماضي أيضاً أوجد المشكلة نفسها في جنوب شرق تركيا. وبدأ المستعمر الآن في إيجادها في سوريا. ويقوم المستعمر الكافر في هذه الفترة على إيجاد مشكلة شيعية في العراق والتي لا وجود لها أصلاً هناك تمهيداً لتمزيقه إلى ثلاث دويلات على الأقل. وفي المغرب مسألة الصحراء. وفي المغرب والجزائر مشكلة البربر،.وفي مصر مسألة الأقباط. وفي إندونيسيا يراد فصل عدة جزر عنها بعدما نجحت دول الاستعمار في فصل تيمور الشرقية. ونجحت هذه الدول في تقسيم الباكستان عام 1971م، وسمي الجزء المنسلخ منها بنغلادش. وهناك مشاريع تجزئة للدويلات الهزيلة من قبل الدول الاستعمارية التي أقامتها. وتستخدم ورقة الأقليات وحقوقها ذريعة للتقسيم والتفتيت.
إنّ أوّل ضحية لمفهوم «الأقليات» هم الأقليات أنفسهم؛ إذ وتّر هذا المفهوم الدخيل علاقتهم مع الأكثرية، وجعلها تتحوّل إلى صراع لبسط الهيمنة والتحكم أنتج فتناً داخلية وحروباً دموية. ولما كانت الدول الغربية تدعم هذا التوتُّر وتسعى إليه فقد أصبح مصير الأقليات مرهوناً بالتدخل الأجنبي في كل كبيرة وصغيرة. وقد عبّر عن هذا كما جاء في «صحوة الرجل المريض»: «القطب الماروني المعروف في شمال لبنان يوسف بك كرم برسالة إلى البطريك الماروني بولس مسعد (عام 1857م) ورد نصها في كتاب «تاريخ لبنان العام» وفيها يشكو من الصراعات وترابطها بالمصالح الدولية فيقول: (لقد أصبحت أمورنا في هذه الأيام تابعة لإنكلترا أو فرنسا، وإذا ضرب أحدهم جاره تصبح المسألة إنكليزية – فرنساوية، وربما قامت إنكلترا وفرنسا من أجل فنجان قهوة يهرق على أرض لبنان). ولم يمضِ على هذه الرسالة أكثر من ثلاث سنوات حتى اشتعلت الفتنة الطائفية التي اكتوى لبنان بنارها وسقط فيها الآلاف من المارونيين والدروز عام 1860م…». وكأنه في رسالته هذه يصف واقع لبنان اليوم بعد مضي أكثر من قرن ونصف من الزمان.
وقد استخدمت الولايات المتحدة الورقة الكردية وحرّضت الحركات الكردية على الانفصال في العراق ثم تخلت عنهم. وفي تقرير للجنة بيكه (pike) التي شكلها الكونجرس عام 1975م قرّرت ما يلي: «لقد كانت سياستنا غير أخلاقية تجاه الكرد، فلا نحن ساعدناهم ولا نحن تركناهم يحلون مشاكلهم بالمفاوضات مع الحكومة العراقية، لقد حرضناهم ثم تخلينا عنهم». ويصف وليم سافير هذه الحالة في مقال له في عام 2004م بقوله: «تخلينا عن الأكراد للشاه في عقد السبعينات بعد أن وضع الملا مصطفى البرزاني ثقته في الولايات المتحدة. خذلنا الأكراد مرة أخرى عقب حرب الخليج الثانية عام 1991م، عندما انتفضت قواتهم إثر تحريضنا لها، لكنها تعرضت لضربات كبيرة بواسطة المروحيات القاذفة للقنابل التي استخدمها جيش النظام العراقي السابق لإخماد التمرد الكردي ضده، رغم كل ذلك قاتل الأكراد نظام صدام حسين إلى جانبنا على مدى ما يزيد على عشر سنوات».
إن مفهوم الأقلية يبحث عن فوارق خاصة لدى مجموعات من الناس تكون مندمجة ومنسجمة مع غيرها في النظام العام في داخل مجتمع وفي ظل دولة واحدة، ولكنها أقل عدداً من غيرها، وفي كثير من الأحيان لا تكون لها أية مشاكل مع ما يسمى بالأكثرية أو مع المجموعات البشرية الأخرى كما كانت الحال في ظل الدولة الإسلامية، حيث كانت المجموعات البشرية منصهرة في بوتقة الإسلام، ومندمجة في المجتمع الإسلامي بدون تمييز. وحتى بعد زوال الدولة الإسلامية وإيجاد هذه الدويلات الكرتونية الهزيلة بقيت هذه المجموعات البشرية منسجمة مع بعضها البعض؛ بسبب وجود آثار لأفكار الإسلام في حياتها. فمثلاً في تركيا حتى أعوام الثمانينات من القرن المنصرم لم يكن هناك مشكلة أقلية كردية ولم يكن يحس الأكراد بأنهم شعب آخر، بل كانوا منسجمين مع إخوانهم الأتراك ويعانون المشاكل نفسها التي يعاني منها الأتراك؛ بسبب وجود نظام كفر فاسد يطبق عليهم ما يخالف دينهم ولا يستند إلى عقيدتهم. وكانوا يثورون لأجل النظام المنبثق عن عقيدتهم كما حدث في ثورة الشيخ سعيد الكردي من أجل إعادة الخلافة عام 1926م. ولكن في عام 1984م أسس الاستعمار عن طريق عملائه حزب العمال الكردستاني الذي بدأ بإثارة النعرة القومية عند الأكراد، وحدث ما حدث، وما زالت هذه المشكلة تتفاعل ودول الاستعمار الغربي تغذيها حتى تؤتي أكلها المر بفصل الأكراد عن الأتراك، وإيجاد كيان علماني آخر كما هو موجود في تركيا، فتزيد المشكلة تعقيداً.
مفهوم الأقليات لا يعالج المشكلة
إن مفهوم الأقلية الذي أصدره الغرب وصدَّره إلى العالم لا يعالج ما يسمى بمشكلة الأقليات، بل هو الذي يوجد الأزمة ويعقدها، فهو يعمل على إيجاد الفوارق بين مجموعات الشعب الواحد، ويعمل على تقسيمه. ولكن العلاج الصحيح والحق في هذه المسألة هو العمل على إيجاد الانسجام بين المجموعات البشرية المختلفة؛ لأن وجود الفوارق في اللغات والأديان والعادات والتقاليد، وفي الأعراق والألوان والأنساب، أمر طبيعي بين البشر منذ أن خلق الله البشرية. وإذا ذهبت تقسم الناس على أساس هذه الفوارق انتهى بك الأمر إلى تقسيم القبيلة الواحدة بطوناً والبطن الواحد عائلات، والدين الواحد مذاهب، والمذهب الواحد اجتهادات وآراء.
إن مفهوم الأقلية مفهوم مختلق من قبل الدول الاستعمارية الكبرى خاصة، ومن قبل مؤسستها وأداتها العالمية، ألا وهي الأمم المتحدة ومجلس أمنها الدولي الذي يصدر القرارات، ويعطي للدول الاستعمارية صلاحية التدخل، بل واحتلال البلاد وفرض العقوبات والحصار، وغير ذلك من أنواع الجرائم التي ترتكب في حق شعوب آمنة بريئة قادرة على حل مشاكلها بنفسها، حيث تقوم هذه الدول الاستعمارية الجشعة التي تعودت على مصِّ دماء الأبرياء ونهب ثرواتهم، بإقامة حكومات لها تسميها ديمقراطية، من أجل حفظ حقوق الأقليات. وبإلقاء نظرة على دولة العراق التي كانت آخر مسرح للتدخل الغربي يتبين ما الذي يحصل مع الأقليات عندما تدسُّ الدول الغربية أنفها في المسألة.
إن علاج المشاكل بين المجموعات البشرية ذات الفوارق المختلفة التي قد يحدث بينها مشاكل وفتن كما يحدث بين أبناء المجموعة الواحدة، لا يكون بإقصائها عن أخواتها في كيان منفصل ومستقل، فإن هذا تقطيع للجسد الواحد، بل يكون بالعمل على حل المشاكل بالتصالح بين الناس بعد الوقوف على سبب المشكلة وإزالته. فإذا اشتكى الأكراد في تركيا مثلاً وقالوا إن لغتنا ممنوعة يقال لهم إن لغة الأتراك العثمانية ممنوعة أيضاً، وقد أجبروا على تغيير أسماء عائلاتهم ومنعوا من أن تكون أسماء عائلاتهم عثمانية أو عربية، وكذلك مُنعت نساؤهم من ارتداء اللباس الشرعي وأجبرت على السفور، ومُنعت ثقافتهم الإسلامية وأجبروا على تجرع الثقافة الغربية المرة، بل منع ما هو أكبر من ذلك وأعظم ألا وهو دينهم الحنيف وأقصي عن الحياة وعن الدولة وعن المجتمع، وحوصر في المساجد وفي بعض الطقوس والأشكال الكهنوتية. فهل شكاة الأكراد تختلف عن شكاة إخوانهم الأتراك؟. إن الحل لا يكون بتقسيم البلد، وإنما بإزالة النظام الذي خلق هذا الاختلاف والتنازع.
وأخيراً فإنه يجدر بنا أن نؤكد حقيقة لا بد للناس من فهمها وإدراكها: إن مشكلة الأقليات مشكلة مصطنعة، وإن علاجها لا يمكن أن يكون عن طريق الدولة العلمانية الديمقراطية؛ لأن الدولة العلمانية غير قادرة على حل مشكلة الأقليات إذ هي التي ولدتها، ولأن الدولة العلمانية في العالم الإسلامي لن تكتب لها الحياة، فهي تخالف ما عليه جماهير الناس من الإيمان بالإسلام والرغبة في العيش حسب أحكامه كما أظهرت الانتخابات التي جرت في بعض البلدان الثائرة حيث أعطى الناس أصواتهم للذين رفعوا شعار الإسلام، حتى ولو شكلاً…! فالدولة العلمانية الديمقراطية لا يمكن أن تكون على النمط الغربي في بلاد المسلمين، بل سيكون ظاهرها ديمقراطياً وباطنها دكتاتورياً لأنها لن تبقى إلا بفرض نفسها بالحديد والنار كما هو حال الدول القائمة اليوم في العالم الإسلامي. ولن يكون هناك حل لمشكلة الأقليات إلا في ظل دولة الخلافة لأنها دولة قادرة على صهر الناس في بوتقة الإسلام بشهادة التاريخ، وقادرة على رعاية شؤون أهل الذمة بما يضمن لهم حياة سعيدة مستقرة آمنة. فليتنبه إلى ذلك المثقفون المسلمون، ولينتبه إليه غير المسلمين المقيمون بين ظهرانينا، فلا يصح لهم أن يقبلوا بأن يكونوا أدوات بيد الدول الاستعمارية التي لا تعمل حساباً إلا لمصالحها الأنانية. وليتعظوا بما عليه الوضع في العالم الإسلامي. فهل جلبت الدولة العلمانية التي تحكمهم منذ سقوط الخلافة الإسلامية شيئاً غير الخسران والثبور؟!q
بحمد الله وتوفيقه، تم الانتهاء من نشر حلقات هذا الموضوع، وستقوم الوعي ، إن شاء الله تعالى، بإصدار كتاب الوعي رقم (5) يحوي هذه الموضوعات، ويحمل اسم «دولة الخلافة وما يسمى بالأقليات».