مع القرآن الكريم
1989/06/10م
المقالات
2,120 زيارة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
قال تعالى:
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ).
جاء في أسباب النزول لأبي الحسن على بن احمد الواحدي النيسابوري، قال عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فقرأ عليه القرآن وكأنّه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فقال له: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه. فانّك أتيت محمدا تتعرض لما قبله. فقال علمت قريش أنّي من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك انّك منكر له وكاره. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالإشعار منّي، ولا أعلم برجزها وبقصيدها منّى. واله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا والله إن لقوله الذّي يقول حلاوة، وان عليه لطلاوة، وانه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وانّه ليعول وما يعلى. قال: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه. قال: دعني حتى أفكر فيه، فقال: هذا سحر يؤثر بأثره عن غيره.
وجاء في تفسير ابن كثير، إنهم لم اجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه في القرآن قبل أن يقدم عليهم وفود العرب للحج ليصدوهم عنه. فقال قائلون شاعر، وقال آخرون ساحر، وقال آخرون كاهن وقال آخرون مجنون. كل هذا والوليد يفكر فيما يسمع، وفيما يقوله. ففكر وفكر وقدّر وعبس وبسر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر.
وذكر مثل ذلك في تفسير فتح القدير للإمام الشوكاني. وكذلك في تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن الكريم “ذرني” أي دعني، وهي كلمة وعيد وتهديد موجهة للوليد بن المغيرة الذي خوّله الله وأعطاه مالا ممدودا وهو ما كان للوليد من أموال ونعم بين مكّة والطائف مما تساوي غلته ألف ألف دينار. والأظهر أنّها إشارة إلى كثرة المال الذي لا ينقطع. كما أعطاه من البنين عشرة وفي رواية اثنا عشر، اسلم منهم ثلاثة فقط هم الوليد وخالد وهشام. وكانوا لا يغيبون عنه بل كانوا دوما إلى جانبه وبسط له العيش مطمئنا مترفا. ومهد له ووسع، قال مجاهد: (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا) انه المال بعضه فوق بعض. ومع ذلك فهو يطمع بالزيادة (كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا) أي كان معاندا لرسول الله ناكرا لفضل الله عليه. ولذلك فان الجاحد المنكر للفضل والجميل لا يستحق الزيادة، والوعد بالزيادة لمن شكر لا لمن عاند وكفر ويتوعده رب العالمين فيقول: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) أي مشقة من العذاب لا راحة له فيها. وقيل أن صخرة ملساء في جهنّم كلّما حاول صعودها هوى في جهنّم ألف عام.
قال انه فكر في نفسه وقدر ما يقول بمحمد، فقتل أي لعن، ثم عبس وبسر فقطب ما بين حاجبيه وكلح وجهه وتغير لونه واخذ يقطع دار الندوة ذهابا وإيابا حتّى توصل إلى رأي ارتضاه. وهو يعلم يقينا أنّ هذا الرأي هو خلاف الحقيقة. فقال: “إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر” فحمل القوم هذا القول ليتصدوا به إلى العرب الوافدين لموسم الحجّ.
والعبرة التي يمكن أن ندركها من سياق هذه الآيات مدى استعداد قريش وزعمائها للتصدي للدعوة ورسم الأساليب الخبيثة لمقاومتها، وقد أدعوا أنّ القرآن شعر وهم أدرى النّاس بالشعر وادعوا أنّ محمّدا ساحر، وهم يعرفون السحرة، وادعوا أنّ محمّدا كاهن وهم يعلمون أنّ محمّد ليس بكاهن، وقد اتهموه بالكذب وهم أنفسهم يسمونه الصادق الأمين.
وهذا شأن الدعوة ومناوئيها في كل زمان ومكان. عداء سافر يقابله جرأة وتحد. وأمّا العبرة الثانية، فهي فضح ما كان يخطط له أعداء الدّعوة وما يرسمون من أساليب في مقاومتها فقد تليت السورة على الوفود القادمة إلى موسم الحجّ، قبل انتشار الدعاية التي خططوا لها ونفذوها.
هذا التصوير الرائع للحالة النفسية التّي كان الوليد بن المغيرة يعانيها وهو يقدح زناد فكره ليصل إلى رأي. ولهذا فان فضح المؤامرات وكشف الخطط وتعرية أعداء الإسلام من أهم أحكا حمل الدعوة.
ثمّ التهديد والوعيد بمخاطبته (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) والملفت للنظر أنّ هذه السورة هي من أوائل ما نزل من القرآن الكريم، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم في منعة ولا كان المسلمون قوّة تحمي نفسها، ومع ذلك فقد كانت السورة مصدّرة بقوله تعالى (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) أي مصدّرة بإنذار موجّه إلى هؤلاء الكفّار أعداء الدعوة، ثمّ يبدأ الوعيد بالفقرة الثانية (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)… الآيات.
وتختم بقوله تعالى: (سَأُصْلِيهِ سَقَر) إن هذا التحدّي للكفر ولائمة الكفر بهذه الجرأة هو الطريقة التّي اتبعها القرآن الكريم في الدعوة وتوجيه الدعاة.
1989-06-10