مآزق أميركا في المنطقة في ظل فشل استراتيجية التفرد
2013/07/29م
المقالات, كلمات الأعداد
2,194 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
مآزق أميركا في المنطقة في ظل فشل استراتيجية التفرد
[مصر وسوريا نموذجاً]
استراتيجية التفرد
أصابت أميركا نوبة من جنون العظمة بعد ما حققته من تقدم كبير في المجالات العلمية المختلفة، سيما في مجال المواصلات والاتصالات والقوة العسكرية الضاربة التي حازت فيها قصب السبق على كافة الأمم الأخرى. كما أغراها انهيار حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفياتي وخلو العالم من منافس لها باعتماد استراتيجية دولية تعيد صياغة النظام الدولي من جديد بما يجعلها صاحبة القرار الأوحد في هذا العالم، ففرضت العالم كله كساحة حرب محتملة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م بذريعة الحملة العالمية للقضاء على الإرهاب.
عوّلت الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي مثّلها مجموعة من مفكري أميركا ومحاربيها القدامى ومثقفيها باسم المحافظين الجدد على القوة المفرطة والمباشرة لفرض الرعب في العالم بغية الهيمنة وتوسيع النفوذ والحسم السريع. وقسمت العالم إلى فريقين: معها (خاضع لها) أو ضدها (ينبغي القضاء عليه).
لذلك قامت إدارة المحافظين الجدد بنشر مزيد من القواعد العسكرية في الخليج العربي ووسط آسيا والقرن الأفريقي، وحوّلت العالم الإسلامي إلى مسرح ساخن للعمليات العسكرية، فبطشت بالمسلمين بهمجية قل نظيرها، فيما اضطرت الدول الكبرى فضلاً عن الأقل شأناً إلى مداراتها وتجنب الاصطدام المباشر معها، إذ أدركت تلك الدول شراسة أميركا في ظل استراتيجية البطش والقهر والتفرد الجديدة، وبالتالي استعدادها لسحق كل من يواجهها، لذلك ناورتها فأظهرت تعاطفها معها وقدمت نفسها كحليف لها في “الحرب ضد الإرهاب” في محاولة لامتصاص هجمتها الشرسة.
إلا أن تلك الدول لم تألُ جهداً في الوقت ذاته في عرقلة المشروع الأميركي، إذ إن نجاحه كان يعني بالضرورة تحوُّلهم إلى دول غير ذات أثر في السياسة الدولية، وبالتالي سيتلاشى نفوذهم وتتضرر مصالحهم بشكل مباشر.
موقف أوروبا
مارست أميركا قتل المسلمين وقهرهم وتعذيبهم بشكل منهجي مستفز وصلف، غير مبالية بأية قيمة سوى تحقيق غايتها الأساسية من وراء شن حروب تدميرية قذرة، فزرعت الرعب والخوف في العالم في سبيل فرض نظام دولي جديد والتفرد بالقرار فيه، وبالتالي تسخير مقدرات العالم وإمكانياته لمصلحتها. لهذا تكالبت الدول على مواجهتها بطريقة أو أخرى، بمن فيها تلك التي مثلت دور الحليف لها، مما تسبب بفشل أميركا بشكل ذريع، واستنزف مقدراتها وبدد أحلامها بالتفرد المطلق. وبالتالي لم تعد أميركا قادرة على فرض وصايتها على العالم فضلاً عن كونها ليست هي من يقرر مصيره وحدها.
لقد قامت الدول الكبرى المناوئة لأميركا بالعمل على عدة مستويات في آن معاً فيما يشبه تقسيم أدوار فيما بينها، فشنعت فرنسا على أميركا اختراقها للقانون الدولي واحتلالها العراق من غير مسوغ قانوني، وصعّدت الأمر إلى درجة كبيرة مع أميركا، مما أظهر همجية الأخيرة وعدم مبالاتها بأي قانون.
كما قامت بريطانيا بتسخير شبكتها الإعلامية الدولية بشكل فعّال في رصد سياسات أميركا وممارساتها البشعة وجرائمها في العالم ووضعها تحت المجهر، من باغرام في أفغانستان وصولاً إلى غوانتانامو في كوبا مروراً بأبو غريب في العراق، إضافة إلى السجون السرية واختطاف المسلمين المسالمين، مما كشف الغطاء الأخلاقي عن أميركا وأظهرها كدولة مارقة بلا قيم.
إضافة لما سبق، فقد سخرت هذه الدول عملاءها لاستنزاف الجيش الأميركي، لا سيما في العراق، حيث لعبت دول الخليج بخاصة السعودية وقطر دور الممول، فيما لعب الأردن دور الموجِّه الأمني والسياسي لكثير من القوى السياسية والعسكرية، كما دخلت روسيا في صراع محتدم مع أميركا على النفوذ في آسيا الوسطى، مما أرهق أميركا وأضر بمشروعها بشكل ملموس.
فشل الاستراتيجية
كانت تكلفة “الحرب العالمية على الإرهاب” باهظة جداً على أميركا، مالياً وعسكرياً ونفسياً وأخلاقياً. ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، إذ أدى فشل مشروعها إلى تداعيات لا يستهان بها،فتداعيات الفشل ترتبط بحجم المشروع. لذلك لم تعد أميركا ما قبل الحرب المزعومة على الإرهاب هي نفسها بعدها، فقد انكشفت أمام العالم وفقدت هيبتها واحترامها. ولم تعد الدول المناوئة والمنافسة بل والحليفة تنصاع لها أو تهابها على النحو الذي سبق.
هكذا تحوَّلت الفرصة التي تصوَّرها المحافظون الجدد سانحة جداً لاغتنام العالم إلى كابوس مزعج ثقيل الوطأة على الولايات المتحدة، اضطرها إلى التحوُّل من الهجوم الاستعلائي الكاسح إلى موقف المدافع المستميت عن مصالحها أمام مؤامرات وتحرشات الدول الكبرى المناوئة لها بخاصة الدول الأوروبية بقيادة بريطانيا وفرنسا، التي تعمل جاهدة وبشكل دؤوب في محاولة لاستعادة نفوذها وتفعيل دورها في السياسة الدولية.
الموقف في سوريا
حصَّن النظام السوري نفسه بشكل كاف يَحول دون إمكانية حصول أي تغيير داخلي ضده، بعد تصفية منهجية على مدار عقود لكافة القوى التي يحتمل أن تحمل تهديداً له، فارضاً هيمنة أمنية مطبقة ومطلقة على الدولة والمجتمع. كذلك كان محصَّناً من حصول أي تغيير يأتي من الخارج لوقوفه تحت المظلة الأميركية، الدولة الأولى في العالم، وتفانيه في خدمتها، وإدراكه مدى أهمية دوره بالنسبه لها، فهو بمثابة واسطة العقد في معادلة أميركا في الشرق الأوسط، ضمن حلف الممانعة الكاذبة، الممتد من طهران إلى لبنان مروراً بالعراق. لهذا كان نظام الأسد يشعر بثقة فائقة في قدرته على الثبات في وجه أي عاصفة تهب عليه، وكان جاهزاً للبطش بوحشية، مستعداً لبتر أي تحرك منذ اللحظات الأولى.
التصعيد الأوروبي: في ظل هذا الوضع، لم يكن سهلاً على الدول الأوروبية المناوئة لأميركا أن تشعل ثورة تطيح بالنظام، فهي تدرك الواقع المقفل تماماً بوجه التغيير، سيما أنها حاولت مراراً وفشلت في كل مرة، على نحو ما جرى إبان الصراع بين الإخوان والنظام في الثمانينات، كذلك عقب اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري. لذلك تطلَّب التعامل مع الحراك السلمي الذي انطلق في درعا للمطالبة بالاقتصاص من المحافظ الذي نكَّل بالأطفال كثيراً من الحنكة والخبرة والصبر ليقفز سقف المطالب بشكل سريع من طلب القصاص إلى الإصلاح الشامل وصولاً إلى إسقاط النظام.
دور الإعلام: لعبت شبكات الإعلام الأوروبية وتوابعها في العالم العربي دوراً فاعلاً في تأجيج الثورة، وقد نجحت نجاحاً منقطع النظير بخاصة أن أهل سوريا مهيَّؤون لذلك نتيجة لظلم النظام لهم وفقدانهم لأبسط الحقوق وشعورهم بفقدان الكرامة، فقد كان دور تلك الشبكات الإعلامية موجهاً ومحرضاً بشكل واضح للمحافظة على اشتعال الثورة، وكان ضيوف هذه الشبكات من أصحاب الرأي والفكر والثقافة والعلم والتحليل يجدّون في إيجاد الأجواء التي تمنح الناس الأمل بسقوط النظام سريعاً، مما حفز الناس لمتابعة حراكهم بزخم، كما حال دون انطفاء الثورة التي تعرضت لأكثر من نكسة ونكبة، بل ازدادت مع مرور الوقت تنظيماً واشتعالاً واتساعاً. وهكذا بعد أن كان كثيرون يعتبرون أن مجرد الاحتكاك بالنظام ضرب من الجنون وأن إسقاطه مستحيل وخبل وخيال، بات هؤلاء يتوقعون انهياره خلال شهور قليلة، فاتسعت رقعة الثورة، وازدادت الانشقاقات في الجيش، وانتقل إسقاط النظام من خانة المستحيل إلى خانة الممكن ومنها إلى خانة المؤكَّد حتماً، فيما تحول النظام وأعوانه وحلفاؤه وأميركا من ورائهم إلى موقف المدافع المستميت للحيلولة دون انهياره قبل ترتيب بديل مناسب يضمن نفوذ أميركا.
التمويل والتسليح: تحرك عملاء بريطانيا في المنطقة بدهاء، تمويلاً وتسليحاً وإعلاماً وسياسة لضعضعة نظام الأسد ولإرباك مخططات أميركا في معالجة الأزمة. إلى درجة أقر معها وفد أميركي زار سوريا لبحث الأوضاع في المناطق الخاضعة للثوار، بأن فشل التسوية التي تحاول أميركا تمريرها يرجع بشكل جوهري لكثرة الكتائب وتنوع مصادر دعمها وتمويلها، والذي يأتي بشكل أساسي من قطر والسعودية.
هكذا احتدمت العلاقة بين جناحي الصراع الأقليميين في المنطقة (جناح تقوده السعودية وقطر وآخر تقوده إيران) فأخذا يتنابذان علانية وبدأ كل منهما يفضح دور الآخر على الملأ. وقد أشار الأسد في هذا السياق إلى دور بريطانيا في عسكرة الثورة ضده، كما كرر أن حل الأزمة يبدأ من السعودية وقطر، باعتبارهما أدوات القوى الدولية في تمويل وتسليح وتأجيج الثورة عليه.
الموقف الأميركي: لمست أميركا عزم خصومها على إسقاط الأسد بالقوة، فتصدت لهم مبكراً معلنة عدم السماح بتكرار السيناريو الليبي في سوريا، وأن الحل الوحيد المسموح به في سوريا يجب أن يمر عبر عملية تسوية مع النظام في إطار مؤتمر جنيف ١ و ٢. لذلك منعت التدخل العسكري الدولي، وفرضت حظراً على إمداد الثوار بالسلاح النوعي، فيما غضت الطرف عن كل القوى التي تعين نظام الأسد على الصمود في وجه عاصفة الثورة كإيران وحزب الله اللبناني إلى حين تمكنها من لملمة أوراقها وترتيب وضع يؤمن لها استمرار نفوذها. ما يعني أن أميركا اضطرت تحت وطأة الهجمة واشتعال الثورة إلى الكشف عن واقع ارتباط إيران وحزبها في لبنان بشكل واضح بها، وذلك إدراكاً لصعوبة الموقف، وحاجتها للدفع بكل أوراقها كي تنقذ نفوذها المهدد.
كما ألمحت أميركا مراراً إلى استعدادها للتدخل العسكري للتصدي لما تسميه الإرهاب الذي تصم به عدداً من الكتائب المقاتلة ضد النظام، أي أن استعداداتها العسكرية تنصبُّ ضد من يمكن أن يقوِّض نظام الأسد لا من يريد أن يجتثه.
بهذا صار الوضع في سوريا مفتوحاً على احتمالات عدة ومنها خسارة أميركا لنفوذها هناك كلياً أو جزئياً، وباتت التركيبة الدولية التي شكلتها أميركا عبر عقود من الزمن لحماية مصالحها في المنطقة تعاني من خلل أساسي في المفصل السوري، مما يهدد المعادلة ككل، وبالتالي يفسر احتدام الصراع وطوله والتكاليف الباهظة الناتجة عنه، التي يدفع المسلمون كلفتها من دمائهم وأرزاقهم.
الموقف في مصر
ليس الحال في مصر بالنسبة لأميركا بأفضل منه مما هو عليه في سوريا. ورغم أن أغلب أطراف الصراع الدولية والإقليمية متشابهة، لكنَّ أُطُرَ الصراع وأشكالَه أكثرُ تعقيداً بسبب وجود قوى سياسية متعددة ومتجذرة في المجتمع المصري إلى جانب القوة الأساسية المتمثلة بالجيش، الذي يعد الركيزة الأساسية للدولة، والمهيمن عليها. فيما تستمد غالب القوى المتواجدة في السلطة والمجتمع نفوذها منه (كالقضاة والوزراء ورجال الأعمال).
كما يمنح الاقتصاد المغلق (الذي يبلغ ٤٠% من اقتصاد الدولة بحسب بعض الأبحاث) الجيش استقلالية تامة. ولا يجرؤ أحد فضلاً عن أنه لا يحق لأحد مساءلة الجيش حول ميزانياته. وقد أقر الدستور الجديد في عهد الرئيس محمد مرسي هذه المكتسبات للجيش مما حوَّله بحكم القانون إلى قلعة حصينة، لديها ما يشبه الحكم الذاتي.
لذلك كله كان الجيش العامل الحاسم في استقرار أي نظام سياسي في مصر؛ ولهذا اتخذته واشنطن الركيزة الأساسية لحفظ نفوذها، وذلك بعد أن عملت على اختراقه مبكراً، حين كانت تعد لانقلاب الضباط الأحرار عام 1952م على الملك فاروق. كما نجحت بإحكام قبضتها على الجيش منذ اتفاقية كامب ديفيد عام ١٩٧٨م، بعد أن ربطته بها تمويلاً وتسليحاً وتدريباً، مما مكنها من إعادة تشكيله وإدخال تغييرات جوهرية على هويته وبنيته وعقيدته، حيث عزلت واشنطن مصر عن الصراع «العربي الإسرائيلي» وأسقطت (إسرائيل) من قائمة الأعداء، واستبدلتها بعداء مفرط لتيار الإسلام السياسي بذريعة محاربة التطرف والإرهاب. وصارت مهمة الجيش منذئذ تنحصر في إبقاء مصر تابعة لأميركا، وفي محاربة ما يسمى التطرف والإرهاب، وفي الحفاظ على أمن إسرائيل.
ولأهمية دور الجيش في تحقيق أجندة واشطن، سارعت الأخيرة بالتضحية بحكم مبارك بعد 18 يوماً فقط من المظاهرات الشعبية، لاستيعاب غضبة الجماهير ولإبقاء الجيش متحكماً في المشهد السياسي. كما أنها تقوم بمتابعة شؤون الجيش المصري بشكل منتظم من خلال إدارة المنح العسكرية السنوية الضخمة (1.3 مليار دولار)، والتي تجعل من شركات الأسلحة والأمن الأميركية قادرة على الاطلاع التام على أوضاعه والتأثير في شؤونه. كذلك تنتدب الإدارة الأميركية أهم الشخصيات لديها في وقت الأزمات لضبط شؤون الجيش بحسب مصالحها. وقد عهدت عقب الانقلاب الأخير الذي أطاح بالرئيس الإخواني، محمد مرسي، إلى وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل ليكون قناة الاتصال الرئيسية، وبشكل يومي، مع وزير الدفاع المصري الفريق عبد الفتاح السيسي، الذي يمسك حالياً بزمام الأمور في مصر.
لذلك كله كان لا بد لأي طرف يبتغي ضرب النفوذ الأميركي في مصر من كسب ولاء الجيش أو العمل على تحجيم دوره في الدولة وتحييده عن الحكم، سواء كان حكماً مباشراً على نحو ما كان عليه الحال منذ انقلاب الضباط الأحرار حتى تنحية حسني مبارك، أو غير مباشر على نحو حكم السيسي لمصر تحت واجهة مدنية.
إن إدراك هذا الواقع الحساس لدور الجيش، يُلزم كل من يتناول الصراع الدولي في مصر وضع الأحداث الأساسية في إطار الصراع معه أو عليه تحت المجهر.
في هذا السياق نلحظ أن ما قام به الرئيس محمد مرسي قبل عزله يشير إلى محاولة تقليص دور الجيش المباشر في الحكم، فمثلاً قام بتعيين طاقم جديد من المحافظين، والمحافظ في مصر بمنزلة الحاكم الفعلي للمحافظة، حيث تكون القوى الأمنية والشرطية في خدمته، ولذلك عادة ما يكون المحافظ لواء منتدباً من الجيش، كما قام بتغيير مدير المخابرات، وأحال أعضاء المجلس العسكري باستثناء السيسي إلى التقاعد، وبدأ يستدعي كبار الضباط للقائهم بوصفه كرئيس للجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة من غير استئذان أو تنسيق مع الفريق السيسي، من ثم اتخذ قراراً لافتاً بقطع العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري، كما قام بعدة إجراءات سيادية أخرى، كإعادة مجلس الشعب الذي تم إبطاله، واستبدال النائب العام بشخصية جديدة مقربة منه.
لقد حوربت الإجراءات التي اتخذها مرسي لأخذ حيِّز من السلطة بشدة من قبل الأطراف المرتبطة بالمؤسسة العسكرية، كوسائل الإعلام التي نهشت لحمه حياً، وصنعت بيئة معادية له تحت عنوان لا لأخونة الدولة ولا لدولة المرشد، كما عملت بكد لإبراز مرسي كرئيس أبله. إضافة لهذا قامت المحكمة الدستورية العليا بنقض كل ما غزله مرسي، خطوة خطوة. كما سارعت حكومة الانقلابيين إلى عزل المدعي العام المقرب من مرسي وإلى تعيين محافظين جدد.
في هذه الأجواء دخلت دول الخليج كالسعودية والإمارات على الخط، فأظهرت عداءها للإخوان، رغم أنها كانت قد آوتهم واحتضنتهم سابقاً، وظهرت وكأنها على قلب رجل واحد مع عسكر مصر ضد الإخوان، محرضة وداعمة لهم بالمال والإعلام، رغم أن هذه الدول هي صنيعة بريطانيا وتأتمر بأمرها، أي أن سياساتها يجب أن تنسجم مع واقع السياسة البريطانية الساعية إلى تحجيم دور العسكر وعزله عن الحكم في مصر، ما يعني أن مواقف دول الخليج مناورة بريطانية، كونها تبدو عكس ما يفترض أن تكون عليه.
لم يكن يجدي نفعاً وقوف دول الخليج وراء مرسي، فقد أثبت الواقع فشل الإخوان بعد حكم صوري لمدة سنة، وكان واضحاً أن استمرارهم بات عبئاً عليهم أنفسهم وعلى كل من يظهر مؤيِّداً وداعماً لهم،كما كثرت شكاوى الناس بخاصة مع ما جرى من عبث بأسعار العملة والتضخم وشح في مواد أساسية كالسولار وانقطاع الكهرباء، إضافة إلى ما برز من شحن طائفي وصل الذروة بين المسلمين والأقباط بل حتى بين السنة والشيعة (على قلتهم) في مصر. فضاق الناس بالإخوان ذرعاً وباتت الأجواء موائمة للجيش كي يحسم الوضع لصالحه. من جهة أخرى، فإن الدعم والتأييد الخليجي لعسكر مصر يجعل لهم دالة عليهم، عسى أن يمكنهم ذلك مع الوقت من التأثير فيهم وفي مجريات الأمور بشكل أو آخر. وهكذا فإن غَزَلَ دول الخليج للجيش وتبرعها بمليارات الدولارات لمصر تأييداً لانقلاب السيسي ما هو إلا مناورة خبيثة وخدعة ماكرة، ينطبق عليها قول الشاعر: فَلَمْ أرَ وُدّهمْ إلاّ خِداعاً.
عواقب فشل استراتيجية التفرد
إن استكبار أميركا وغرورها أعميا بصيرتها ودفعاها إلى استصغار الأمم الأخرى واستضعافها وإلى سوء تقدير قوى خصومها والاستهانة بها. فقد كانت استراتيجية التفرد الأميركي بالقرار الدولي ضرباً من الجنون الذي كتَّل دولاً أساسية ضدها كما ألَّب الرأي العام العالمي عليها. ولعل تصرفها هذا شبيه من وجوه عدة بما فعلته بريطانيا عندما أساءت تقدير الموقف الدولي في 1956م حين قادت الهجوم الثلاثي على مصر لاقتلاع الضباط الأحرار الذين رعتهم أميركا واحتضنتهم ومكنتهم من قلب نظام الملك فاروق المرتبط ببريطانيا.
فقد ظنت بريطانيا حينها أن قواها العسكرية الضخمة الرابضة شرق قناة السويس قادرة على سحق عسكر مصر بسرعة كبيرة من غير عواقب تذكر بغية استئصال النفوذ الأميركي قبل أن يترسخ، مستعينة بفرنسا و(إسرائيل) ومتذرعة بتأميم جمال عبد الناصر قناة السويس. إلا أن العدوان الثلاثي الكاسح على نظام الضباط الأحرار سرعان ما انكفأ، وانقلب نصر بريطانيا السريع إلى فشل ذريع، بعد أن أقحمت أميركا الاتحاد السوفياتي ليهدد بإغراق الأسطول البريطاني في البحر الأبيض المتوسط، ما اضطرها إلى وقف الحرب، وبدأت منذئذ بسحب قواتها من مصر والمنطقة، التي صار نفوذها فيها في مهب الريح، فطارت منها مصر وسوريا وإيران والسودان وغيرها لتقع فريسة بيد أميركا. هكذا ارتدَّ عدوان بريطانيا العسكري الكاسح على مصر وبالاً عليها، ما دفعها إلى أن تساير أميركا بدلاً من أن تجتثَّ نفوذها، بل واضطرت لأن تظهر كمن يسير في ركابها دهراً من الزمن خلال الحرب الباردة، قبل أن تلتقط أنفاسها مجدداً عقب خوض أميركا حربها العالمية المجنونة على “الإرهاب”، لتستثمر بريطانيا كبوات أميركا وعثراتها، فتستعيد جزءًا من دورها التاريخي في المنطقة والعالم.
أسئلة محورية
يبقى سؤالان لا بد من طرحهما في سياق بحثنا، السؤال الأول طرحه توماس فريدمان الصحفي اليهودي المتأمرك على النحو التالي: هل كلما دخلت الولايات المتحدة في انحراف في مسارها السياسي كدولة، هل لا يزال يصح فيها ما ورد على لسان وينستون تشرشل “إن الأميركيين دائماً ما سيفعلون الشيء الصحيح، بعد أن يكونوا قد استنفدوا كل الإمكانات الأخرى”؟ يجيب فريدمان نفسه “لا أعتقد أن ذلك لا يزال صحيحاً بأية صورة”. ويؤكد هذا المعنى خبير شؤون الشرق الأوسط فى مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، ستيفن كوك بقوله “بقدر ما تأمل واشنطن في أن تتمكن من تدبر أمورها من خلال حماية مصر لمصالحها، كما فعلت لفترات طويلة، إلا أنّ الموقف الأميركي في مصر سوف يتغير، وسيتراجع دورها فيه”.
السؤال الثاني والأهم، هل ستبقى الأمة الإسلامية تتنقل عبر انقيادها لحكامها وزعاماتها من حضن مستعمر سفيه إلى آخر لئيم يستنزف طاقاتها ويفتت مجتمعاتها ويسومها سوء العذاب في إطار صراع دولي مرير على ثرواتها ومقدراتها ومصالحها وعقيدتها وحضارتها ومستقبلها؟ الجواب: إن الصراع الدائر في منطقتنا يدفع المسلمون فيه ثمناً باهظاً على كل صعيد، لم يعد ممكناً أو مجدياً معه أي نوع من الحلول الترقيعية، ما يدفع الأمة دفعاً للتفكير الجدي بطريقة الخلاص، سيما أن الأحداث الجارية:
– جعلت شعوبنا تدرك (على نحو غير مسبوق) أن المشاكل التي تعيشها هي نتاج الأنظمة السياسية القائمة، وأن لا طائل من أي إنجاز يكون أقل من تغييرها.
– إن السلطة التي تدير مقدرات البلاد وتسيطر عليها هذه الأنظمة هي حق للشعوب، وأنه لا بد من استعادتها لإجراء أي إصلاح حقيقي. وأن تغيير هذه النظم يقتضي منازعتها على السلطة، لا مداهنتها أو التدرج في إصلاحها.
– إن الأمة باتت أكثر جهوزية واستعداداً للتضحية (أكثر من أي وقت مضى) في سبيل التخلص من الطغم الحاكمة المتحكمة في مقدراتها ومصيرها.
– إنه لا أمل يرجى من الغرب، بل إن دوله عدوة لدودة للأمة، ولا تأبه إلا إلى مصالحها، فقد ظهر لؤم الغرب ودجله وقبح منظره وعظم تآمره مع الأنظمة العميلة لتكبيل الأمة واحتواء تحركها في سبيل الخلاص.
– تم افتضاح أمر المشعوذين الذين حاولوا تدجين الأمة وإرضاخها لحكامها أو دفعها للعزلة باسم الإسلام. كذلك سقط سريعاً وبشكل مريع ما يسمى بالإسلام المعتدل.
كل هذا وغيره صنع بيئة خصبة لإنضاج طريقة التغيير الصحيحة في الأمة، وجعل الطريق مفتوحة أمام حملة الدعوة لضخ أفكارهم في الحراك القائم بشكل مؤثر. لذلك صار لا بد من التركيز على مفهوم التغيير على أساس الإسلام وبطريقته الشرعية والعملية لتحرير الأمة من ربقة الاستعمار بكل أشكاله وألوانه، الذي بات أقرب بكثير مما يتصور كثيرون، بخاصة عندما تتبلور طريقة التغيير الصحيحة. كما أنها يقيناً أقل تكلفة من كافة الطرق الانفعالية والمرتجلة التي تعقد الوضع. وعليه فإن الرهان اليوم هو بعد الله تعالى قائم على غرس الوعي الحقيقي في الأمة على دينها وحضارتها وعلى الطريقة الشرعية العملية التي تؤهلها لانتزاع سلطانها من رويبضات الغرب وتشكيل كيانها الخاص بها الذي يمثل وجهة نظرها الخاصة عن الحياة على النحو الذي قام به رسول الله في المدينة المنورة حين أقام دولة الإسلام أول مرة. حينها تدخل الأمة في الصراع الدولي كطرف فاعل فيه، مؤثر في معادلته، بدولة تعمل بجد لتغيير النظام الدولي برمته. وما ذلك على الله بعزيز.
2013-07-29