سياسية الاحتواء (2)
2018/02/07م
المقالات
2,041 زيارة
سياسية الاحتواء (2)
بقلم: سعيد عبد الرحيم
إن أفكار سياسة الاحتواء على نوعين:
-
الأفكار الدولية: وهي أفكار الدول الكبرى في معالجة الأخطار الدولية على المسرح الدولي سواء أكانت تتصل بالمبدأ أم بالإستراتيجية أم بالإدارة.
والمعالجة قد تتم بواسطة التعاون فيم بينهما، إن كانت الأخطار تمس المصالح والأهداف الدولية المشتركة، كتعاون الدول الكبرى في معالجة ما يسمى بخطر الإرهاب الدولي، الذي هو في الحقيقة إرهاب الدول الكبرى لأنها هي التي تمارسه وتصنعه وتقوده وتشرف عليه، أو تتم بواسطة الصراع والتنافس فيما بينها، كالأخطار التي تتعلق بالمراكز الدولية والمنافسة عليها، والأخطار التي تمس المصالح والأهداف المتضاربة المبدئية أو الإستراتيجية أو التكتيكية، كالحرب الباردة القديمة التي وقعت بين المعسكرين: الرأسمالي بزعامة أمريكا، والشيوعي بزعامة روسيا، وكفكرة ترومان ومارشال في احتواء الخطر الشيوعي على جنوب وغرب أوروبا، ولاحتواء الأخطار المتوقعة في أوروبا نفسها على مصالح وأهداف الولايات المتحدة.
-
الأفكار الإقليمية: وهي أفكار الدول الكبرى لمعالجة الأخطار الإقليمية التي تمس مصالح وأهداف الدول الكبرى في المزارع الإقليمية. وهذه الأخطار قد تكون حقيقية، وقد تكون مفتعلة من قبل الدول الكبرى بسبب صراعها وتنافسها على السيطرة على هذه المزارع، والتي ترتبط قيادتها وإدارتها بالدول الكبرى أو المستقلة. ومن أجل تضليل الشعوب وإبراز استقلال دولها في معالجة الأخطار وغيرها تقوم الدول الكبرى بتسريب هذه الأفكار بالخفاء والعلن إلى الدول الإقليمية التابعة، بصورة تبرز هذه الدول وكأنها تشارك الدول الكبرى في رسم السياسات ومنها سياسة الاحتواء، ولكن على المستوى الإقليمي ومنه المحلي، والحقيقة أن الدول الكبرى هي التي ترسم سياسة الاحتواء بشقيها: الدولي والإقليمي، والدول الإقليمية التابعة – كإيران والعراق ومصر- ليست أكثر من أداة تستخدم لتنفيذ سياسات الغرب.
إن فكرة نيكسون التي طرحها في السبعينيات «المشاركة الإقليمية» جاءت لمعالجة الأخطار اآتية:
1-خطر تحرك الشعوب ضد حكام العملاء للغرب، فجاءت هذه الفكرة لإخفاء حقيقة الدول الإقليمية التابعة للغرب، ووضع اللثام على وجهها الرخيص، من خلال إبراز أنها دول مشاركة للدول الكبرى في المسائل والقضايا الإقليمية، وبالتالي إبراز المسرح الدولي وكأنه مقسم إلى مسارح عديدة دولي وإقليمية ومحلية وفيه قوى عديدة فاعلة كبرى وصغرى، وهو في الحقيقة مسرح دولي واحد تقوده الولايات المتحدة كدولة أولى بلا منافس ولا منازع على هذا المركز حتى الآن. وفي هذا الصدد يقول نيكسون في كتابه أمريكا والفرصة التاريخية ما نصه: «وعلينا أن لا نتعامل مع الزعماء العصريين كحاملي رسالتنا بل كشركاء متساويين، ذلك أن أقصر الطرق للقضاء عليهم يكون في إعطاء الانطباع أنهم ليسوا أكثر من ناطقين بلسان الغرب».
2-معالجة الأخطار التي نجمت عن ممارسة أمريكا لدور البوليس الدولي، الذي يتدخل عسكرياً لضرب كل جهة تتدخل وتتهدد مصالح الولايات المتحدة العالمية مهما كان نوع هذه المصلحة وصفتها. وهذا الدور قد استنزف الطاقات والموارد والقدرات الأمريكية، وأثار روح الامتعاض والغضب لدى الشعب في قدرات زعمائه.
ففكرة نيكسون قد ألغت دور البوليس الدولي، وكرست الدور القيادي والعالمي للولايات المتحدة، من خلال الاستعانة بالأدوات أو الدول التي تدور في فلك الولايات المتحدة، والتي تسمى أقطاباً، لكي تقوم هذه الأقطاب المزعومة بالقيام بمهمة حماية وتأمين المصالح الأمريكية العالمية، فقامت أمريكا بمحاولات عديدة لتشكيل ميزان للقوى في المسارح الإقليمية حسب مصلحتها، ولا تزال سائرة في هذا لطريق لجعل هذه القوى يوازن بعضها بعضاً، حتى لا تتمكن أية دولة من ممارسة أي تهديد لمصالح الولايات المتحدة، ولما فشلت أمريكا في فكرة الترتيب الإقليمي الأمني في الخليج تحت المراقبة والإشراف الأمريكي، وإعادة توزيع الثروة فيه، وفشلت في جعل إيران- بعد الإحاطة بالشاه وقيام الجمهورية- تقوم بدور البوليس الإقليمي لصلح الولايات المتحدة في الخليج، قام كارتر بإعلان عن فكرة المزاوجة بين كرة نيكسون «المشاركة الإقليمية» وفكرة دور البوليس في حالة تهديد مصلحة حيوية لأمريكا، حين تعجز الأدوات والأقطاب الوهمية عن حمايتها ودرء الأخطار عنها. وهذه الفكرة طرحها كارتر بع أن افتعل أزمة الأمن في الخليج لكي يجعله بحيرة مغلقة لأمريكا، فقد أعلن في بيانه عام 1980: «إن المصلح الأمريكية في الخليج لا تقل أهمية عن المصالح الأمريكية في غرب أوروبا».
إن أعمال ووسائل تنفيذ سياسة الاحتواء على نوعين:
الأول: دولي: وهو الأعمال والوسائل التي تتصل بالدول الكبرى، وتعالج الأخطار التي تهدد مصالح الدول الكبرى، وتتم هذه الأعمال إما من خلال التصرف المنفرد للدول الكبرى، أو من خلال هيئة الأمم وقانونها التشريعي والإجرائي، أو من خلال المؤتمرات والاتفاقيات والأحلاف الدولية كمؤتمر يالطة وطهران بين روسيا ودول الغرب لمعالجة الخطر الألماني، ومؤتمرات القمة بين أمريكا وروسيا، وكاتفاقيات خطر التجارب النووية أو انتشار الأسلحة النووية، واتفاقيات تنظيم الأسلحة بين أمريكا وروسيا، وكحلف الأطلسي وحلف وارسو.
الثاني: إقليمي: وهو الأعمال والوسائل التي تعلق بمعالجة الأخطار الإقليمية ومنها المحلية لصالح الدول الكبرى، كأعمال إيران في الخليج فهي تخدم السياسة الأمريكية للهيمنة على الخليج، وأعمال الباكستان وإيران والسعودية في أفغانستان، فهي أعمال تخدم السياسة الأمريكية في أفغانستان، وأعمال مصر وكوبا في إفريقيا لصالح الولايات المتحدة ومن الوسائل الإقليمية التي تستخدم الاتفاقيات والمؤسسات والأحلاف والمؤتمرات والحروب الإقليمية وغيرها كثير. فمجلس التعاون الخليجي ومنظمة الوحدة الإفريقية والجامعة العربية، والمؤتمر الإسلامي، والحرب الأهلية في لبنان، وحرب الأيام الستة، واستمرار حرب الخليج الأولى، ونحو ذلك من الأعمال المصطنعة والوسائل التي تستخدمها الدول الكبرى لدرء الأخطار عن مصالحها وأهدافها، ولتكريس مصالحها وأهدافها في العالم.
نماذج من أعمال سياسة الاحتواء الإبداعية:
1-حين وقعت الحرب العالمية الثانية خاف هتلر من أن تدخل تركيا الحرب إلى جانب إنكلترا، أي إلى جانب الحلفاء، وهو يعلم أن الفئة الحاكمة في تركيا، فئة مصطفى كمال المسماة بحزب الشعب، فئة تسير مع الإنكليز أن يدخلوهم الحرب بجانبهم. وهو يعلم ذلك، ومن اجل ذلك خشي خطر دخول تركيا الحرب ضد ألمانيا فأراد أن يجعلها على الحياد. لذلك أرسل أعظم رجاله دهاءً وهو فون بابن سفيراً لألمانيا في تركيا ليقوم بمهمة جعل تركيا على الحياد والحيلولة دون دخولا الحرب بجانب الحلفاء, لأن دخولها الحرب ضد الحلفاء غير وارد وليس محل أمل, لذلك كان هم هتلر ضمان أن لا تدخل تركيا الحرب على جانب الحلفاء ضد ألمانيا، فأرسل أدهى رجاله لهذه المهمة، ولكنه حتى يغطي قصده جعل مهمة فون بابن محاولة جلب تركيا إلى جانب ألمانيا، ومحاولة إقناعها بدخول الحرب إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء، لذلك حرص الحلفاء من ناحيتهم عل جعل تركيا على الحياد، وصار سفراؤهم يشتغلون لهذه الغاية بجد، وكان فون بابن يشتغل ظاهراً لأخذ تركيا إلى جانب ألمانيا، فحمل ذلك الحلفاء على أن يحرصوا كل الحرص على بقاء تركيا على الحياد، وسخرت الجهود الدبلوماسية للحلفاء لخدمة الهدف الألماني وبالتالي تمكنت من ألمانيا من درء الخطر المتوقع عليها من تركيا حال دخولها الحرب بجانب الحلفاء.
2-ثورة كرمويل التي يفتخر الإنكليز بها ليس ثورة شعبية بل ثورة العائلات العريقة على الثورة الشعبية، فقد قامت في ذلك الوقت ثورة شعبية تريد إزالة سلطان العائلات العريقة والرأسماليين، وكادت تنجح هذه الثورة فكادت لها العائلات العريقة وأرسلت كرمويل ليقوم بثورة يطالب فيها ببعض الحقوق، فالتف حوله الكثيرون وحققت له بعض المطالب فقضى على الثورة الشعبية وقتلها في مهدها.
3-الحرب الباردة الجديدة التي لم تشترك فيها أوروبا، وأشعلتها أمريكا ضد روسيا في منتصف السبعينيات، وألبستها الثوب المبدئي من ناحية دولية, وأبرزت الخطر الشيوعي المفتعل على دول العالم الثالث, كما أنها أبرزت أن هذه الحرب تستهدف الزعامة الدولية لروسيا، ومركزها العالمي، لك تدفعها لتثبت وجودها عالمياً كقوة عظمى دولية في المجال الدولي, ولتندفع بلا وعي في سباق التسلح، ولتجرها في التدخل في شؤون العالم الثالث بالخفاء وعن قصد ليسهم هذا التدخل في تعزيز نفوذها في العالم الثالث وخصوصاً في إفريقيا ضد النفوذ الأوروبي ولا سيما البريطاني، ولتتخذ من هذه الأعمال وقوداً لتغذية ننار هذه الحرب, ومن أجل هذه الأهداف وغيرها غضت أمريكا الطرْف عن تورط روسيا في أفغانستان، ولم تحاول منعها من التدخل بل وأسهمت في تعميق وترسيخ هذا التورط، فقامت باحتضان الثوار الأفغان، ودعمتهم بكل ما يحتاجونه، ودفعت عملائها لمساندة الثوار واحتواهم، ولكي لا يلجأ الروس على الحرب النووية بهدف تعزيز مركزهم الدولي, جعلتهم يلمسون ويدركون النجاح في تبديد الهدف الأمريكي الذي صورته لهم وللعالم, ولتعزيز هذا التصور قامت بأعمال مصطنعة حتى برز الوضع على الساحة الدولية وكأنها على وشك حرب نووية، مع أن الحرب النووية لم تكن هدفاً أمريكياً ولا هدفاً روسياً.
فأمريكا قد أشعلت هذه الحرب لكي تجعل الاتحاد السوفياتي ينزع ثوبه الشيوعي الداخلي ويمزقه كما مزق ثوبه الخارجي في عام 1916، عن طريق نزع الثقة بالشيوعية وفي قدرتها على علاج المشكلات, وعلى الأخص المشكلات الاقتصادية، فكان من آثار هذه الحرب انهيار الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي. فهذه الحرب حقيقية من ناحية الموقع الداخلي للاتحاد السوفياتي، ومن ناحية صفتها المبدئية، وهي حرب مفتعلة من ناحية الموقع الدولي ومن ناحية صفتها الإستراتيجية.
ولاحتواء خطر القوة العسكرية الروسية على المدى القريب، قامت أمريكا بعقد الاتفاقات العسكرية مع روسيا لتنظيم وضبط التسلح في العالم وبين الدولتين، ولاحتواء هذه القوى على المدى البعيد تسعى أمريكا جاهدة لتعزيز نفوذها داخل روسيا، ولتكثير سواد عملائها فيها لتمكنهم من تسلم السلطة فيها حين يأتي الظرف المناسب.□
2018-02-07