كتاب في مقال: الغرب والشرق والأوسط
1990/08/07م
المقالات
3,023 زيارة
تأليف: برنارد لويس
ترجمة وعرض: د. نبيل صبحي
مقدمة:
واحد من كتب عدة ألفها المستشرق البروفيسور (لويس)، وهو مجموعة محاضرات ألقاها في جامعة (إنديانا) بالولايات المتحدة الأميركية عام 1963م، نشرت في العام نفسه، أما الكتاب المعرّب فلقد صدر عام 1965م.
و (برنارد لويس) أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة لندن، ورئيس قسم التاريخ في كلية الدراسات الأفريقية والشرقية، والكتاب طريف وهام إذ أن موضوعه لا يزال مطروحاً في ساحة الصراع الفكري في العالم الإسلامي عامة، وفي الشرق العربي خاصة، فبعد الصدمة المرعبة التي أصابت حَمَلة الأفكار المهزومة من جراء المد الإسلامي العارم الذي اكتسح كل الأيديولوجيات الهجينة، يحاول القوميون العلمانيون وأضرابهم «العَوْمَ» مرة أخرى على سطح الأحداث، متمسحين بالإسلام دون تغيير جوهري في قناعتهم ومقولاتهم، يقولون… بألسنتهم: الإسلام تراث… أي: «بالعربي الفصيح» لا مكان له الآن في حياة الجماهير!!» الإسلام دين، على النمط الأوروبي، أي: يجب أن يبقى معزولاً في زوايا أماكن العبادة، بين الإنسان وربه!!، الإسلام… عامل من عوامل كثيرة صاغت القومية العربية… أي بصريح العبارة… ثانوي التأثير!!
كل هذا التهافت… هو محاولة يائسة ـ لعلها الأخيرة ـ لمنع الإسلاميين من توعية الناس بالانفصام الكامل بين القومية العلمانية والإسلام، فهما يسيران على خطين متوازين لا يلتقيان، العروبة في المفهوم الإسلامي الواضح هي اللسان، والمسلمون على اختلاف عناصرهم حملوا وأحبوا لغة القرآن الكريم، بل عن الكثير من المسلمين ـ من غير العرب ـ كانوا من أبرز علماء اللغة الحبيبة الراقية التي يدعو لنشرها الإسلاميون الواعون بين ألف مليون مسلم، ويحاربون بالقلب واليد واللسان كل أعدائها من شعوبيين ومتفرنجين… وعملاء تنصير…
وطرافة الكتاب، في هذه الأجواء، هي كشفه، بدون مواربة، القوى التي دَلَفت منها وعبرتها التأثيرات الغربية والأفكار المستوردة إلى المجتمعات المسلمة، فهدّمت خلافتها، ومزّقت وحدتها، وبعثرت المسلمين في تكتلات عرقية شوفينية متحاربة، ومهّدت للغزو الاستعماري الاقتصادي والعسكري والثقافي.
و «برنارد لويس» هو الشاهد الغربي الصريح الذي يفضح أصول الدعوات القومية الليبرالية العلمانية، والماركسية التي وفدت إلى الشرق الأوسط وكلها نتاج حضارة غربية يهودية نصرانية.
والشرق الأوسط في تحديد (لويس) الواسع هو البلاد المسلمة بمجتمعاتها التي اختلفت جذور عناصرها ولغاتها في الماضي، ثم ذابت كلياً تقريباً في بوتقة الإسلام وعالميته الرحبة، فهي الآن رغم كل التدخلات الأجنبية والتأثيرات الخارجية، مجتمعات متماسكة قوية، سمات ثقافتها وحضارتها وتقاليدها مستمدة من معين واحد هو الإسلام.
الفصل الأول:
بعد التحديد الجغرافي لتعبير (الشرق الأوسط) يعترف (لويس) بالهوية العقائدية الواضحة لهذه المنطقة الهامة من العالم، فيقول بالحرف: «منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن، والشرق الأوسط هو ارض الإسلام، وهو يمثل قلب العلام الإسلامي جغرافيا وفكرياً وروحياً، ففيه وُلد إيمان المسلمين، وعلى أرضه صيغت للمرة الأولى الحضارة الإسلامية» (ص 14)، وفي سياق حديثه عن حكام الدولة الإسلامية، قال: «وكانت عقيدتهم التي حملوها، ولغتهم التي نشروها، وهي لغة قرآنهم، هي الأساس والوسيلة لحضارتهم الفتية الحديث، والتي أسهم في بناءها أناس من شعوب متعددة. ولكنها كانت تنشر باللغة العربية، وتُكتب في إطار الأفكار الإسلامية، وتوزن بالمعايير الإسلامية» (ص 17).
ويعترف (لويس) بتسامح الإسلام فيقول: «لقد اندحرت النصرانية، ولكنها لم تتحكم بظهور الإسلام في الشرق الأوسط، لقد تناقص عدد النصارى في الشرق الأوسط بعد الفتح الإسلامي بعد أن انتقل بعضهم إلى الإسلام، وبازدياد عدد المسلمين الجدد بالإضافة إلى المسلمين الفاتحين أصبح النصارى أقلية، غير أنه بقي لهم وزن لا بأس به، كما كان من «حرية» العقيدة والعبادة، وأدوا بسبب تسامح الدولة الإسلامية دوراً صغيراً، ولكنه مهم، في بناء المدينة الإسلامية الشهيرة، وعندما جاء الصليبيون يحملون معهم «تراثاً» ضخماً من التعصب والشك أثروا على علاقة النصارى بجيرانهم المسلمين، وأضعفوا الوثيق من الصلات التي كانت قائمة قبل قيام الحروب الصليبية» (ص22)، «… وفي عهد الفتوحات العربية كان لليهود مجتمعات محدودة منتشرة في كل الشرق الأوسط، وقد اسهم الفاتحون المسلمون في تحسين حال هذه المجتمعات اليهودية من ناحية الأمن والمعاش» (ص24).
ويختتم (لويس) الفصل الأول بذكر الفرق بين مفهوم الدين عند الغربيين وعند المسلمين فيقول: «للدين مفاهيم مختلفة في أذهان مختلف الناس، ففي الغرب يعين الدين بصورة رئيسية نظام إيمان وعبادة، يتميز عن الولاء الوطني والسياسي، ويعتبر في هذا العصر ثانوياً بالنسبة للولاءين السابقين المذكورين. أما بالنسبة للمسلمين فالدين يعني أكثر من ذلك بكثير، فالإسلام يشمل في معناه ما تعنيه في الغرب كلمة (الحضارة)… و(الدين)… مجتمعين»، «ولجميع الشعوب الإسلامية قاسم مشترك واحد من الإيمان والولاء للشريعة الإسلامية، يطبعها بطابع هوية واحدة يبقى ويدوم حتى ولو فقد الإيمان وأهملت الشريعة» (ص 30)، «… والوحدة التي تجمع هذه الشعوب على قاسمها المشترك هي عقيدة: لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وثانياً: القرآن والسنة، وثالثاً: النظام الماهر المعقد المبني على نظرية الإسلام الدينية، وعلى الفقه الذي استند إليه، فتعاليم الإسلام المنبعثة من منابعه الأصلية تضم بالإضافة إلى المعتقدات والعبادات، تشريعاً يمكن تسميته بلغة الغرب: الحقوق المدنية والحقوق الجنائية، وحتى الحقوق الدستورية، فكل مسلم مؤمن يعتقد أن هذه التشريعات الإسلامية جاءت من النبع نفسه، ولها سلطة وقوة التشريعات الاعتقادية والعبادية، ولقد وضع فقهاء المسلمين، أسس «التقاليد» السياسية للمجتمعات الإسلامية، وبقيت هذه «التقاليد» سائدة المفعول لقرون طويلة، وكان لتاريخ المسلمين الأوائل رصيد ضخم من القوة المعنوية في قلوب المسلمين» (ص 30 ـ 31).
مقابلة بين نظريتين:
ويتابع (لويس) الحديث عن نظرة المسلمين إلى غيرهم من أهل الكتاب ويقابلها بنظرة أوروبا النصرانية المعاصرة إلى الإسلام فيقول: «وفي نظر العالم الإسلامية كانت النصرانية واليهودية دينين سماويين وأصلهما حقيقة إيمانية صحيحة عند المسلمين. وهما حلقتان قديمتان في سلسلة الأديان السماوية التي اكتملت بالإسلام في رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما في الديانتين من عقائد احتفظ بها الإسلام واعتبرها وقدّرها. أما ما عدا ذلك فكان من الزيادات والتشويهات والتحريفات، لذلك فالنصرانية في حالتها التي آلت إليها، ومعها «الحضارة النصرانية» التي بنيت على أساس تلك الحالة، ليست كاملة في نظر المسلمين، فهي ناقصة محرّفة منسوخة»، «وفي نظرة المسلمين هذه إلى الحضارة النصرانية والنصرانية نفسها تسامح وتساهل أكثر بكثير مما في نظرة أوروبا النصرانية المعاصرة التي تنظر إلى الإسلام على أنه كله باطل وشر…، وهذه النظرة المتسامحة من المسلمين تنعكس في المعاملة الحسنة، والتسامح الكبير الذي يلقاه أتباع الديانة النصرانية في المجتمعات الإسلامية بالرغم من موقف النصارى كديانة منافسة للإسلام» (ص 38 ـ 39).
من الذي بدأ التغريب؟!! يقول (لويس): «إن حملة نابليون على مصرة عام 1719م كانت أول شرارة في طريق التغريب… ثم افتتحت عهداً دام قرناً ونصف القرن من التدخل المباشر الأنكلو ـ فرنسي في أمور الشرق» (ص44)، ويضيف (لويس): «في فترة قرن ونصف القرن من السيطرة الأنكلو ـ فرنسية في الشرق الأوسط، مضافة إلى الفترة الأطول من تأثير التغريب في تركيا، أحدث هذا التأثير والسيطرة تغييرات واسعة عميقة غير قابلة للعودة إلى الوراء، على مختلف مستويات الوجود الاجتماعي، ومن الطبيعي أن تكون أسباب هذه التغييرات نتيجة أعمال الحكام الغربيين الذين كانوا أكثرهم يمثلون المحافظة والحذر في سياستهم، إلا أن أكثر التغييرات الجذرية العنيفة التي حدثت قام بها (متغربو) الشرق الأوسط من حكامه الشرقيين بعزم وشجاعة» (ص48).
ما هي نتائج التغريب؟
يقول (لويس): «وما بين آونة وأخرى يطرح مفكروا الشرق الأوسط في الأعوام الأخيرة سؤالاً يجتاح إلى جواب: ما هي نتيجة عملية التغريب؟… «وهذا سؤال يجدر بنا أن نوجهه لأنفسنا نحن الغربيين، لقد كانت عادتنا التي تعودناها في العالم الغربي هي: كلما اتجه الشرقيون إلينا كلما ازداد تمسكنا بالغرب، لنجعل أنفسنا مثالاً للفضيلة والتقدم، فإذا تشبهوا بنا عددنا ذلك أمراً حسناً، وإذا لم يكونوا كذلك عددنا ذلك سوءاً وشراً» (ص60).
ويختم (لويس) الفصل الثاني قائلاً: والتغريب الذي كان من عمل الغربيين… بل كان أكثره من عمل المتغربين من أبناء الشرق، جاء بتغييرات يُشك كثيراً في قيمتها. أول هذه التغييرات هو الانحلال السياسي الذي أدى إلى تفتيت المنطقة وتجزئتها فقبل ذلك التاريخ كان في الشرق الأوسط نظام سياسي مستقر… رما لم يكن كل السلاطين الذين تعاقبوا على الحكم محبوبين من رعاياهم، ولكنهم كانوا في موضع احترام، والأهم من ذلك أنه لم يكن هناك خلاف على مشروعية الحكم لأنه (عاهل) آخر خلافة إسلامية تضم جميع مسلمي العالم تقريباً.
ثم عزل السلطان وهُدمت الخلافة، وقام مقامه عدد من الملوك والرؤساء الديكتاتوريين الذي دبروا أمرهم لمدة معينة، وربحوا تصفيق وتأييد شعوبهم، ولكنهم لم يكونوا أبداً موضع الرضى التام والقبول الطبيعي، والولاء الأكيد الذي كان ممنوحاً لحكومة السلطان الشرعية، وهذا الولاء والرضى جعلا السلطان غير محتاج للضغط والعنف والإرهاب والديماغوجية السياسية في الحكم، وبضياع الشرعية والولاء خسر أهل الشرق الأوسط هويتهم الواحدة القديمة، فبعد أن كان كل مواطن عضواً في دولة إسلامية كبيرة لها ألف سنة أو تزيد من التراث والتاريخي، وجد الناس أنفسهم مواطنين لسلسلة من الدول التابعة، والوحدات السياسية الجديدة المفتعلة، والتي تحاول الآن إيجاد جذور لها في ضمير الشعب وولائه. وصاحَبَ نَسْفَ وانهيار النظام السياسي القديم، على أية حالة، انحلالٌ اجتماعي وثقافي مواز له، ربما كان النظام القديم في حالة تفسخ، ولكنه، على كل حال، كان قائماً بوظيفته، حيث كانت الولاءات والمسؤوليات واضحة الحدود والمعالم، تجمع جميع فئات الشعب في إطار واحد، ثم دُمِّرت الأساليب القديمة وسُخر منها ومن القيم القديمة، وقام محلها مجموعة من المؤسسات والقوانين والمقاييس الوضعية المستوردة من الغرب والتي بقيت لمدة طويلة غريبة عن أحاسيس وآمال المسلمين في الشرق الأوسط، بالإضافة لكونها تافهة بالنسبة لحاجتهم» (ص 61 ـ 62).
من أين جاءت الاشتراكية للشرق الأوسط؟؟
يقول (لويس) عن الاشتراكية في الشرق الأوسط: « بدأت الاشتراكية في الشرق الأوسط بواسطة فئات صغيرة كشكل غامض من أشكال تقليد (الموضة) الأوروبية، وقليل من الكتاب أيدوها بجدٍ واهتمام مثلما أيدها السوري النصراني (شبلي شميّل) الذي عاش ما بين 1860 ـ 1917م، والكاتب النصراني المصري (سلامة موسى) الذي عاش ما بين 1887 ـ 1959م، واتبع الاثنان الأنموذج الغربي للاشتراكية، حيث اتبع شميّل مدرية (جوريه) الفرنسية، واتبع موسى الفابيّين الإنكليز، وفي فلسطين (المنتدبة) قامت اشتراكية ديمقراطية على النفط الأوروبي بين أوساط العمالية اليهودية؟؟..» «.. بدأت حركة جديدة بعد نجاح حزب العمال البريطاني سنة 1945، وكانت بريطانيا في ذلك الوقع في راس قائمة الدول الكبرى، وكانت الاشتراكية في رأس القائمة في بريطانيا، لذا فقد اعتقد الناس أن الاشتراكية شيء جيد، بالإضافة إلى أنها العلاج للمشاكل الاقتصادية المتعاظمة في الشرق الأوسط، وهكذا ظهرت مجموعة من الأحزاب الاشتراكية في مختلف بلاد المنطقة كان أهمها:
الحزب العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني في سورية عام 1950م ثم توجد حزب مشيل عفلق: البعث العربي سنة 1953م وسمي حزب البعث العربي الاشتراكي» (ص 95 ـ 96).
ويتابع (لويس): «كانت الاشتراكية (فوق الريح) في سنوات 1950م وما بعدها، تماماً كما كانت سابقتها الحركة الليبرالية قبل قرن من الزمان، وكسابقتها ربحت الاشتراكية عدداً من المتعلمين، ولكنهم لم يكونوا هم الذين جاؤوا بها إلى كرسي الحكم والسيطرة، فالثورة الاشتراكية، مثل الدستورية الليبرالية، فُرضَت من فوق، لم تأت تلبية لطلب شعبي أو رغبة جماهيرية، ولا جاءت نتيجة لانتصار الحركة الاشتراكية أو نجاح الطبقة العاملة، بل كانت نتيجة قرار نظام حكم عسكري» (ص98)، ويختم (لويس) الفصل الثالث بقوله: «قد يأتي يوم يجد فيه اشتراكيّو الشرق الأوسط نظامهم يتساقط هباء كما جرى للديمقراطيين من قبلهم، وينتهون إلى الخيبة والضياع، وقد يتعلمون من أخطاء أسلافهم فيصلحون ويتأقلمون ويسيطرون» (103).
مصادر الأفكار الوطنية والقومية:
يبدأ (لويس) الفصل الرابع بقوله: إدخال هرطقة القومية العلمانية، أو عبادة الذات الجماعية، كانت أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط، ومع ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً…، إنه لمن المحزن حقاً أن يؤرخ الإنسان المراحل المتعاقبة التي مرت» (ص105).
«كانت الدولة العثمانية آخر وأطول الدول الإسلامية العالمية الكبيرة التي حكمت الشرق الأوسط من أيام الخلفاء الراشدين، وفي هذه الدولة كان ولاء المسلمين الأساسي للإسلام، وللدولة التي تجد واقع الإسلام السياسي، وللخلافة التي اكتسبت الصفة الشرعية بالمبايعة على مرور الزمن، والتي كانت تسوس أمور الناس، وكان المعارضون والمتردون والثائرون يسعون لتغيير الوزراء أو الحكام أو حتى الخلافة الحاكمة كلها، ولكنهم لم يسعوا أبداً لتغيير أساس الولاء لدولة الإسلام ولوحدة هويته» (ص109).
ويتابع (لويس): «وعلى المنحى نفسه مشى المواطنون العرب في الدولة العثمانية قبل أن يتأثروا بالأفكار الأوروبية» (ص109). «… ولقد كانت فكرة قيام الدولة على أساس الأرض والوطن القومي غريبة أجنبية بالنسبة لهم حتى إن كلمة (ARABIA) الإنكليزية ليس لها مثيل في اللغة العربية، وكذلك الأتراك لم يخترعوا كلمة «تركيا» إلا حديثاً، وهي من أصل أوروبي» (ص110).
«ظهرت (الفكرة الوطنية) في مصر على يد رفاعة الطهطاوي بعد ما عاش خمس سنوات في باريس، وكان ذلك في أواسط القرن التاسع عشر» (116)، «وأطلق في مصر شعار (مصر للمصريين) الصحفي النصراني «سليم نقاش» وعمّمه اليهودي «أبو نظارة» (ص122)، «وما بين 1860 ـ 1870م نشر بطرس البستاني فكرة الوطنية، وكان هناك المثقفون العرب النصارى في بيروت وجبل لبنان حيث لاقت فكرة (الوطنية) صدى وردّة فعل» (ص120).
الدونمة.. أثاروا فكرة الطورانية المتعصبة:
«ولقد تسربت فكرة القومية العرقية من أواسط وشرقي أوروبا عبر أقنية عدة، ولقد كان اللاجئون البولنديون على الغالب أو الناقلين، عندما ذهبوا لتركيا بعد فشل ثورتهم عام 1848م، ولقد بقي قسم كبير منهم فيها واعتنقوا الإسلام، واحتلوا مناصب هامة في الدولة العثمانية، وكان أهدهم «الكونت قسطنطين بورزيسكي»، وقد سمى نفسه بعد ذلك «مصطفى جلال الدين باشا»!! ونشر عام 1869م كتاباً بالفرنسية في اسطنبول إسمه (أتراك الأمس وأتراك اليوم)، وحاول (بورزيسكي) جهده لإثبات أن الأتراك هم من العرق الأبيض مثل شعوب أوروبا، وينتمون لما أسماه العرق (الطوراني ـ الآري)» (ص 162 ـ 172)، ويتابع (لويس) كلامه «ولقد كان الأتراك أكثر من العرب والعجم نسياناً لتاريخهم الماضي، فلقد كانوا لا يفكرون بأية هوية أخرى غير الإسلام، ولكن المستشرقين عن قصد أو عن غير قصد! ساعدوا الأتراك على استعادة هويتهم القومية الضائعة، وعلى الدعوة إلى حركة قومية تركية جديدة» (ص 172)، «ولما جاء السلطان عبد الحميد، أخمد هذا الاتجاه القومي، ولم يظهر بعد ذلك إلا عام 1908م عندما تبنته حركة الشبيبة التركية» (ص129).
ولقد عارض الشاعر الإسلامي الكبير محمد عاكف هذا التيار القومي وقاومه، ولما ثار قومه الألبان سنة 1912م ضد الدولة العثمانية كتب موجهاً كلامه إليهم قائلاً: «إن ملتكم هي الإسلام.. فما هي هذه القومية القبلية؟ هل العرب أفضل من الترك أو أن (اللاظ) أفضل من الشركس والكرد، أم أن الفرس أفضل من الصينيين؟ بماذا تفضلونهم؟ ماذا دهاكم هل تقسمون الإسلام إلى أجزاء متعددة، إن الرسول الكريم نفسه سفّه العصبية القبلية، وليس باستطاعة الترك العيش بدون العرب، ومن يقول غير هذا فهو مجنون، والترك بالنسبة للعرب عينهم اليمنى وساعدهم الأيمن، فلتكن ألبانيا لكم إنذاراً، ما هذه السياسة المتخبطة،وما هو هذا الهدف الشرير؟ إسمعوها مني، أنا الألباني: لا أقول أكثر من أسفي على بلادي المبتلاة» (ص 135 ـ 136).
ويتابع (لويس) كلامه عن جذور الحركات القومية في الشرق الإسلامي، فيقول: «لقد حاول بعض القوميين العرب المتطرفين، في عدة مناسبات، إيجاد أسس للقومية العربية الحديثة منذ عهد محمد علي… بل عهد صلاح الدين الأيوبي.. بل الخليفة عمر بن الخطاب.. بل عهد حمورابي!! وبدون تعليق أهمية خاصة على هذه التصورات الخيالية الطارئة، يجب أن نقول: إن إحساس العرب بهويتهم المتميزة هو أمر قديم عميق الجذور، وفي العصر الجاهلي وبداية العهد الإسلامي كان عند العرب شعور عنصري ارستقراطي، تحول بعد قيام الدولة الإسلامية العالمية إلى نوع من الإحساس بقيمتهم الثقافية باعتبارهم أصحاب اللغة العربية لغة القرآن» (ص 131 ـ 132).
ثم يقول: «وافتخار العرب له ما يبرره في لغتهم الرائعة، وفي أدبهم الغني العظيم، وقد عبروا عبر الأجيال عن هذا الفخر، إلا أن العروبة ـ كحركة سياسية وكفكرة ـ تقول: إن العرب يشكلون أمة لها حقوقها القومية… هذا الشكل من العروبة لم يظهر إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وبقي أول الأمر محدوداً بمجموعة صغيرة من الناس لا تمثل الشعب العربي، وكان أكثر هذه المجموعة من النصارى»، «والفئة الصغيرة من المتعلمين الذين بشروا بالبعث العربي لم يلاقوا صدى مناسباً، حتى أن الثورة العربية التي نظمها الإنكليز لم تكن ناجحة لا في دعوتها، ولا في أهدافها، كما أومت بذلك القصة الرسمية المروية» (ص 133) «وبعد أن حُرِم العرب من ولائهم الديني وخلافتهم الزائلة، عاشوا في وحدات سياسية مصطنعة خلقها المحتل، أصبحوا تحت رحمة حكم أجنبي يمارسه أسيادهم… المشركون» (ص133).
ويخصص (لويس) الفصل الخامس لثورة الإسلام، فيقول في أوله: «ومنذ بدء التغلغل الغربي في العالم الإسلامي حتى يومنا هذا كانت أهم الحركات الفكرية المتميزة المهمة الأصلية التي قامت في وجههم، حركات إسلامية» (ص148)، «وأقوى الحركات الثورية التي قامت والتي كسبت أقوى التأييد، وأثارت حماس أغلب الجماهير كانت دينية شعبية في أصولها، وفي شعاراتها، وفي الأسلوب الذي عبرت به عن غايتها وسبيلها» (ص148) «وأول ردود فعل المفكرين المسلمين لواقع الانحطاط والضعف الذي أصاب المسلمين.. كانت دينية وليست قومية» (ص149)، «وعندما بدأ الهجوم على العالم الإسلامي لم يكن موجهاً إلى القلب بل إلى الأطراف، ولم يكن السلاطين أو الوزراء أو الجنرالات أو المتعلمون هم الذين قادوا معركة المقاومة بل كانوا الزعماء الدينيون الشعبيون هم الذين استطاعوا إيقاظ وتوجيه عواطف جياشة وطاقات جبارة» (ص154) ويذكر (لويس) من جملة زعماء المقاومة الإسلامية في أطراف العالم الإسلامي: (أحمد بريلوي) في الهند ضد الإنكليز و(شامل) في داغستان ضد الروس، و(عبد القادر الجزائري) في شمالي أفريقية ضد الفرنسيين.
وبعد أن يشتط (لويس) في مدح السير (أحمد خان) الذي أفتى بإبطال الجهاد ضد الإنكليز، ويخص جمال الدين الأفغاني بالنقد القاسي، ويشيد بالحركة الكمالية التي هدمت الخلافة… يعود فيعترف: «كان للمنظمات الإسلامية أبز الألوية في المعركة مع الغرب ما بين عام 1945 ـ 1955م، وكان لدعوتها بتأكيد قيم العقيدة الإسلامية رد فعل قوي، فلقد كانت أقرب إلى مشاعر الطبقات الكادحة المظلومة التي تكره مستغليها من الأسياد المتغربين مثلما تكره الغربيين أنفسهم» (ص173) ويختم (لويس) الفصل الخامس بقوله:
«الشيء الواضح الوحيد هو أن من بين جميع الحركات الكبرى التي هزت الشرق الأوسط في آخر قرن ونصف القرن، كانت الحركات الإسلامية وحدها أصلية في تمثيلها لمطامح أهل هذه المنطقة، فالليبرالية والفاشية والوطنية، والقومية، والشيوعية والاشتراكية، كلها أوروبية الأصل مهما أقلمها وعدلها أتباعها في الشرق الأوسط، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة وتعبر عن مشاعر الكتل الجماهيرية المسحوقة» (ص179).
أميركا تخلق الآن أنظمة تعاديها معاداة معتدلة!
ويخصص (لويس) الفصل السادس والأخير من الكتاب للسياسة ومكانة الشرق الأوسط السياسية في الأجواء العالمية، وأهم فكرة تضمنها هذا الفصل جاءت في سياق الحديث عن دور أميركا في تغيير حكومة لبنان عام 1958م وعن تدخل الحكومة الأميركية مباشرة «لإزاحة حكومة موالية لها وإحلال حكومة أخرى أخف موالاة لها من الحكومة الراحلة، وبالتالي أكثر قابلية للحياة» (ص194) ويقول (لويس):
«الحق أن هذه الطريقة أحلّت السلام، وقطعت الطريق على قيام حكومة مناهضة لأميركا، وأصبح هدف السياسة الغربية في الشرق الأوسط عملاً صعباً، وهو قيام حكومات لها قابلية الحياة!… على أن تكون استعداداتها العدوانية نحو الغرب… محدودة» (ص194) ويتابع (لويس) قوله: وبقيت هذه السياسة منذ ذلك الوقت حتى الآن، وهي تشجيع بل إنشاء أنظمة حكم تعارض أميركا معارضة… معتدلة، والظاهر أن هذه الغاية هي الهدف الأساسي للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط» (ص195)¨
هذا المقال مأخوذ من مقال منشور في مجلة الأمة (العدد الثامن والعشرون ـ السنة الثالثة) كانون الثاني.
1990-08-07