كتاب الشهر: المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية
المؤلف: الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس
مطبوع في عمّان 1411هـ – 1991م. 84 صفحة من الحجم الوسط.
يبدأ المؤلف بتعريف الأنظمة الجاهلية بأنها التي لا تقر لله بالحاكمية، فتطبق شرعاً غير شرع الله، وترفض أن تعتبر الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع.
ويصف الأنظمة في بلاد العرب والمسلمين بأنها جاهلية.
وينقل فتوى لابن كثير [البداية والنهاية 13/119] خلاصتها أن من ترك الشرع المحكم المنـزّل على محمد r وتحاكم إلى غيره من الشرائع كفر. فكيف بمن يحكم بهذه الشرائع!
ويقول: (إن المشاركة في الوزارة التي لا تحكم بما أنزل الله من أناس مسلمين معروفين عند الناس تصبغ هذه الأوضاع الجاهلية بالصبّغة الشريعة وتعطى شهادة تزكية للأنظمة الجاهلية).
ويقول: (وأن المشاركة في الوزارة أو القضاء على أساس الالتزام بهذه الدساتير الوضعية أمر مناهض للإسلام، ويتصادم مع الأوامر الربانية ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتدثر بعباءة هذه الأنظمة القائمة على هذه الدساتير). ويقول: (ليس لواحد من الوزراء أن يخرج عن السياسة العامة للدولة أو أن يهاجمها، بل هو ملزم بنص الدستور بالدفاع عنها، حتى ولو كانت تخالف شرع الله).
ويتساءل المؤلف: (إن هذه الأنظمة الجاهلية حين تعرض على الحركة الإسلامية المشاركة في الحكم فإلى ماذا تهدف؟ هل تهدف فعلاً إلى تطبيق الإسلام أم تهدف إلى أهداف خبيثة لا تمت إلى الإسلام بصلة؟).
إن المؤلف الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس هو أحد قادة «الاخوان المسلمين» في الأردن. وهو بكتابه هذا يوجه النقد إلى جماعة الاخوان الذين اشتركوا في الوزارة في الأردن (كما اشتركوا في غيرها)، وهو يقول في مقدمة كتابه هذا بأنه كان قد أعد مادته قبل فترة ومُنع من طبعه والآن تيسر له إصداره. فهل تراجع الاخوان عن رأيهم في جواز المشاركة، أو أنه هو يغرّد خارج سربه، أو أن السرب صار أسراباً في هذا الموضوع؟
وهو يحاول أن يتسلح بمواقف لبعض قادة الاخوان فيذكر رأي سيد قطب – رحمه الله – بعدم جواز المشاركة في الوزارة. ويذكر أن حكومة الثورة في مصر عرضت على الاخوان أن يشاركوا بعدد من الحقائب الوزارية فرفضوا على لسان المرشد العام حسن الهضيبي – رحمه الله – ويقول بأن وجود المسلم في وزارة يجعله لا محالة يقع في مخالفات شرعية كثيرة.
وهو يفرّق بين الاشتراك في الوزارة والاشتراك في مجلس النواب، فيعتبر النيابة جائزة، يقول: (… ليكونوا نواباً يراقبون الحكومة ويحاسبونها على أساس قرب تصرفاتها من الإسلام وبعدها عنه، وينقّون القوانين من كل قانون يخالف أحكام الشريعة الإسلامية ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
وكانت جماعة الاخوان قد أصدرت نشرة سمتها نشرة «المشاركة في الحكم» وقد أصدرتها بعد اجتماعات ونقاشات بين قادة الجماعة ومفكريها. وكانوا قد وصفوا هذه النشرة بأنها أعمق وأشمل دراسة للموضوع تصدر حتى الآن [عرضت «الوعي» لهذه النشرة في العدد 45] والمؤلف يفند في كتابه هذا أدلة هذه النشرة. وإليكم قسماً من الكتاب:
الرد على نشرة المشاركة في الحكم
وقد يقال: (لا شك في أن الأصل عدم جواز المشاركة في الوزارة التي تحكم بشريعة غير شريعة الله تعالى، وذلك لعموم النصوص الواردة في وصف من يحكم بغير ما أنزل الله بالكفر والظلم والفسق: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ[، ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ[، ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ[، ولأن الحاكمية يجب أن تكون لله وحده: ]إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ[، وكذلك فقد نهى الله المؤمنين أن يتحاكموا إلى شريعة غير شريعة الله، وجعل ذلك منافياً للإيمان حينما قال: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ ما نعى على المنافقين موقفهم في الاحتكام إلى غير ما أنزل الله فقال: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا[.
هذه النصوص وأمثالها تدل على عدم جواز المشاركة في الحكم بغير ما أنزل الله وأن ذلك هو الأصل، لأنه لا يجوز ترك حكم الله إلى حكم غيره، وإن من يفعل ذلك يكون مؤثراً لحكم الجاهلية على حكم الله تعالى: ]أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[.
وتجوز المشاركة استثناء من الأصل استدلالاً بالأدلة التالية:
أ- مشاركة يوسف عليه السلام.
ب- موقف النجاشي [نشرة المشاركة في الحكم ص6].
ويجاب عن ذلك بما يلي:
نحن نتفق مع القول بأن الأصل عدم جواز المشاركة في الوزارة التي تحكم بشريعة غير شريعة الله تعالى. وذلك لقيام الأدلة الصريحة الواضحة من الآيات القرآنية الكريمة التي استدل بها صاحب هذا القول.
فالقاعدة إذن حرمة المشاركة في الوزارة التي تحكم بشريعة غير شريعة الله تعالى. وهذه القاعدة هي التي يفتى بها وهي الفتوى هي الأصل الذي لا يصار إلى غيره، أما إجازة المشاركة استثناء من هذا الأصل احتجاجاً بمشاركة يوسف عليه السلام في الوزارة فهذا لا نسلّم به للأدلة التالية:
أ- إن تصرف يوسف عليه السلام إن صح أنه حكم بغير ما أنزل الله ولا أعتقد كذلك فهو يقع تحت قاعدة شرع من قبلنا والموقف منه، والقول الذي لا خلاف فيه أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا إذا ورد في شرعنا ما يخالفه، وقد علمت الآيات القرآنية الكريمة الكثيرة التي تحرم الحكم بغير ما أنزل الله وتكفّر من يقترف هذه الجريمة.
ب- إن يوسف عليه السلام رفض الحكم بغير ما أنزل الله وأنكر على الطواغيت ذلك ولقد حكى القرآن ذلك على لسانه، فكيف يحكم بشريعة الطواغيت وينكرها ويدعو الناس إلى الكفر بها، قال تعالى: ]مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاًّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[.
وتطبيق أحكام كافرة يتنافى مع عصمة الأنبياء، إذاً العصمة حفظ الله رسله من ارتكاب الذنوب والمعاصي، فكيف بالكبائر؟!
جـ- أما القول بأن تصرف يوسف عليه السلام أمر يتعلق بالعقيدة وليس بالشريعة، ومن ثم فلا يطبق عليه قاعدة شرع من قبلنا، فهذا غير دقيق، إذ هناك فرق بين العمل وبين الاعتقاد، إذ مهما اقترف الإنسان من المعاصي سواء كانت من الكبائر أو من الصغائر كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقتل فإنه لا يكفر بذلك وإنما يفسق، أما إذا استحل هذه الكبائر وإن لم يفعلها فقد كفر، وعلى هذا فلو أباح الزنا ولم يزن والسرقة ولم يسرق وشرب الخمر ولم يشرب والقتل ولم يقتل فقد كفر بإباحة هذه المحرمات. وكذلك لو ترك الصوم والزكاة والحج وإعفاء اللحية والجهاد فإنه لا يكفر، ولو أباح الفطر في رمضان أو حرم الصوم فيه وحرم الحج وإعفاء اللحية والجهاد فقد كفر لأنه حرم ما أوجب الله تعالى.
وأن يقال أن تطبيق يوسف عليه السلام – لو صح هذا الزعم – لأحكام غير شرعية كفرية أمر اعتقادي فهذا مرفوض قطعاً بالنسبة ليوسف عليه السلام بقوله تعالى: ]إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ[ إذ لا يعقل أنه اعتقد تطبيق أحكام كفرية. فيبقى أن يقال إن هذا أمر شريعة لا أمراً داخلاً تحت الاعتقاد، فيعني أنه اضطر لذلك وطبق ما طبق من أحكام مخالفة لأحكام شرع الله، فهو بذلك معذور.
ولكننا نرى أن يوسف عليه السلام لم يحكم بغير ما أنزل الله بعد رسالته ونبوته،ومن ثم ليس وارداً النقاش حول الأمر هل هو عقدي أو يقع تحت قاعدة شرع من قبلنا.
ولو سلمنا جدلاً أنه طبق وحكم بغير ما أنزل الله – وهذا مرفوض ومنقوض بما ذكرنا – فإنه يقع تحت قاعدة شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا إن جاء في شرعنا ما يخالفه، وقد ذكر أصحاب هذا القول: لقد ورد في شرعنا نصوص كثيرة قد أوردوا بعضها في كلامهم تفيد حرمة المشاركة في حكم من يحكم بغير ما أنزل الله. وبناء عليه جعل الأصل عدم جواز المشاركة.
د- هل طلب يوسف عليه السلام في قوله: ]اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ[ هو طلب للوزارة بالمفهوم الشائع في زماننا؟ وما الدليل على ذلك؟
والواقع أن الوزارة في الأنظمة الجاهلية في زماننا والمشاركة فيها تعني أن مسؤولية جميع الوزراء مسؤولية مشتركة في الدفاع عن سياسة الدولة العامة أمام مجلس النواب والمعلوم أن هذه السياسة مخالفة لشرع الله. فيكف يرتضي المسلم لنفسه أن يلتزم بالدفاع عن هذه السياسة ويتبناها؟
إن القول إن يوسف عليه السلام شارك في الوزارة استنتاج وفهم من قائله، وليس هناك من نص يؤيد هذا الفهم، بل إنه لا يليق بيوسف عليه السلام النبي المعصوم أن يكون مسلوب الإدارة أمام الملك يتصرف به كيف يشاء، لا ينكر منكراً يراه ولا يقر معروفاً ويرسخه في حياة الناس، إن يوسف عليه السلام كان مقاوماً للمنكرات وهو في السجن وفي خارج السجن، وكان داعية إلى الله وهو مستضعف لا يخشى في الله لومة لائم، بل إنه لما أفرج عنه لم يتلهف للخروج من السجن بل أصر على البقاء فيه حتى تبرأ ساحته وحتى يخرج بريئاً من كل ما نسب إليه من تهم باطلة وبإقرار من ظلمه واتهمه كذباً وافتراء.
لقد وقف هذا الموقف والملك يطلب مقابلته ومكافأته، فكيف وقد أصبح مطلق الإرادة في تدبير الشؤون المالية قد فوض الملك الأمر إليه تفويضاً تاماً.
هـ- إن الملك قد اطلع على أخلاق يوسف عليه السلام وسلوكه النظيف وحفظه وعلمه وحصافة رأيه فأعجب به أيما إعجاب، وصمم أن يفوض إليه تدبير ملكه وأن يستخلصه لنفسه مكافأة له، وتحقيقاً لمصلحة الناس التي جاءت الشرائع الإلهية كلها لتحقيقها. قال تعالى: ]وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ[.
قال في التحرير والتنوير: (والمكين: صفة مشبهة من مكُن – بضم الكاف – إذا صار ذا مكانة، وهي المرتبة العظيمة، وهي مشتقة من المكان. والأمين: فعيل بمعنى مفعول، أي مأمون على كل شيء، أي موثوق به في حفظه) [13/ 7].
ولما رأى يوسف عليه السلام صدق توجه الملك في تفويض الأمر إليه قال: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)، لقد كان عزيزاً في طلبه، مترفعاً عن شهوة الحكم وحب الرياسة والزعامة إنه قدم نفسه ليخدم غيره.
قال صاحب الظلال رحمه الله [13/ 2004]: (لقد تبينت للملك براءة يوسف، وتبين له معها علمه في تفسير الرؤيا، وحكمته في طلب تمحيص أمر النسوة، كذلك تبينت له كرامته وإباؤه، وهو لا يتهافت على لقاء الملك، وأي ملك؟ ملك مصر! ولكن يقف وقفة الرجل الكرمي المتهم في سمعته، المسجون ظلماً، يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه، ويطلب الكرامة لشخصه وليدنه الذي يمثله قبل أن يطلب الحظوة عند الملك.
كل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه فقال: ]ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي[ فهو لا يأتي من السجن ليطلق سراحه، ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى، ولا ليسمع كلمه الرضا الملكي السامي! فيطير فرحاً… كلا إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه، ويجعله بمكان المستشار والنحي والصديق…
فيا ليت رجالاً يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام – وهم أبرياء مطلقو السراح – فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم، ويتهافتوا على نظرة رضى، وكلمة ثناء، وعلى حظوة الاتباع لا مكانة الأصفياء، يا ليت رجالاً من هؤلاء يقرأون هذا القرآن، ويقرأون قصة يوسف، ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح – حتى المادي – أضعاف ما يرده التمرغ والتزلف والانحناء!…
إنه لم يسجد شكراً كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت، ولم يقل له عشت يا مولاي، وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين، كما يقول المتملقون للطواغيت! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوّل بها رؤيا الملك).
و- إن يوسف عليه السلام حينما فوض الملك أمر تدبير الملك له قد اصبح هو الحاكم الفعلي يدير دفة الحكم، وتلاشت شخصية العزيز، بل أصبح هو العزيز عند أهل مصر وعند القادمين إلى مصر، فقد ورد خطابه بالعزيز في القرآن الكريم في سورة يوسف في موضعين هما في الآية 78 والآية 88:
قال تعالى: ]قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ[.
قال تعالى: ]فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ[.
ولم يعد للملك ذكر كذلك بل كان الملك يصدر عن رأي يوسف عليه السلام، لا يعترض عليه في كل ما رأى فكان في حكم التابع والمطيع.
ويدلك على هذا أيضاً قوله تعالى: ]وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ[ فالعرش: كرسي تدبير الملك، أي أجلسهما على سرير الملك تكريماً لهما.
ولقد ذكر غير واحد من المفسرين أن الملك قد اعتقد عقيدة التوحيد وأسلم لله رب العالمين فاصبح على دين يوسف عليه السلام وفوض تدبير الملك له. [أنظر تفسير زاد المسير في علم التفسير 4/ 344 والنكت والعيون 2/ 282].
وحينما أدخل أخاه إلى مصر وعاش في كنفه أدخله بموجب شريعة يعقوب عليه السلام المعروف بإسرائيل، إذ كانت تنص شريعة يعقوب عليه السلام على استرقاق السارق.
الرد على الاحتجاج بإسلام النجاشي:
وأما الاحتجاج بإسلام النجاشي وبقائه على ملكه على جواز المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية فيرد عليه بما يلي:
أ- إن الوزارة في اللغة إما أن تكون الكلمة مشتقة من الأرز وهو الظهر ومنه قوله تعالى: ]اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي[.
وإما أن تكون مأخوذة من كلمة الوزر وهو الملجأ، ومنه قوله تبارك وتعالى: ]كَلاَّ لاَ وَزَرَ[ أي لا ملجأ.
وإما أن تكون كلمة الوزارة مشتقة من الوزّر وهو الحمل الثقيل، ومنه قوله تعالى: ]وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[.
والوزير هو الرجل الذي يختاره الحاكم ليقوم بمساعدته في حمل أعباء الحكم فيقوي حكمه ويثبت أركانه ويدعم سلطانه.
والوزراء اليوم يقومون بترسيخ الأنظمة الجاهلية الحاكمة وخدمة حكامها وتبني سياستها العامة والدفاع عنها.
أما النجاشي الذي أسلم ونعاه الرسول r للمسلمين فصلى عليه وصلى المسلمون معه r فقد كان حاكماً وملكاً، ولم يكن تحت وصاية أحد ولا آلة طيِّعة في يد غيره، بل كان هو الآمر الناهي، وكان هو يتخذ الوزراء والأعيان والأعوان.
ب- من قراءتنا لكتب السيرة والتاريخ والتراجم نعلم أن كلمة النجاشي ليس إسماً لحاكم بعينه من حكام الحبشة، بل هو لقب يطلب على كل حاكم قد حكم الحبشة في تلك الفترة [أنظر شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 113].
وحين هاجر نفر من المسلمين من أهل مكة في العام الخامس من بعثة المصطفى r إلى الحبشة، كان ملك الحبشة نصرانياً على دين عيسى عليه السلام، وكان عادلاً، ينصف المظلوم، ولما حلّ المهاجرون بأرض الحبشة تعاطف معهم ووفر لهم حرية العقيدة والعبادة والتدين، ولم يرغمهم على دين النصرانية، وتعهد بحماية دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ووفر لهم حرية الانتقال والتجوال والحركة في سائر أرجاء مملكته [أنظر السيرة النبوية لابن هشام ومعه شرح أبي ذر الخشني 1/ 397].
ولقد جاء بعد هذا الملك ملوك آخرون استمروا على سنن من سبقهم في توفير الحرية للمسلمين في العقيدة والتنقل وإقامة العدل وإنصاف المظلوم.
وبعد هجرة رسول الله r والمسلمين إلى المدينة المنورة بسبع سنوات أي في العام السابع من الهجرة النبوية أرسل رسول الله r سفيراً من سفرائه إلى ملك الحبشة في تلك الفترة يحمل معه رسالة منه يدعوه إلى الإسلام، ولكن هذا الحاكم لم يستجب لدعوة رسول الله r ولم يشمل، هذا ما جاء به الخبر الصحيح الذي رواه الإمام مسلم.
فقد روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي r كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي r [صحيح مسلم متن شرح النووي على مسلم 12/ 112].
وعلى هذا يكون النجاشي أي الحاكم الملك الذي حكم الحبشة وأسلم وصلى عليه وسول الله r صلاة الغائب ونعاه للمسلمين بعد وفاه هذا الذي دعاه الرسول r إلى الإسلام ولم يسلم، وقد عاش بعد ذلك ما شاء الله له أن يعيش.
ونستطيع أن نحدد فترة حكمه بعد إسلامه، وأنها كانت قصيرة جداً جداً، فهو قد اسلم في نهاية العام السابع من الهجرة، أو بداية العام الثامن من الهجرة.
أما وفاته فقد كانت قبل فتح مكة ذكر البيهقي في دلائل النبوة [أنظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 190]، ذلك لأن النبي r نعاه ومعه أبو هريرة رضي الله عنه وأبو هريرة أسلم عام خيبر [أنظر الاستيعاب على هامش الاصابة 4/ 208]. فكانت الوفاة بعد هذا العام وهو العام السابع الهجري، والفترة الواقع بعد إسلام أبي هريرة وقبل فتح مكة فترة زمنية لا تكاد تذكر، لدرجة أن أحداً من أصحاب رسول الله r في الحبشة أو في خارجها لم يعلم بإسلامه، ولولا إخبار الوحي بذلك لما علم بإسلامه بعد موته. ولو عاش فترة طويلة بعد إسلامه لاطلع الصحابة على حقيقة الأمر، ولنقلوا لإخوانهم خبراً يثلج صدورهم ويفرحهم، ويرفع معنوياتهم وهو إسلام النجاشي.
ونخلص من هذا إلى أن فترة حكمه بعد إسلامه لا تعدو شهوراً قليلة لا يؤبه لها في عمر الزمن.
جـ- إن الشعب الذي كان يحكمه النجاشي في هذه الفترة القصيرة جداً من حكمه بعد إسلامه كان شبعاً يدين بالنصرانية، والدين النصراني كما نعلم دين كهنوتي، وليس فيه تشريعات تنظم شؤون المجتمع والحكم، ولهذا كان ملوك الحبشة يحكمون بالقواعد العامة في العدل والمساواة وتوفير الحريات العامة للناس، ومحاربة الظلم وإنصاف المظلوم، وهذه القواعد والمبادئ لا تتنافى مع الإسلام، بل هي مبادئ وقواعد إسلامية.
ولقد امتدح رسول الله r أحوالهم هذه فقال لأصحابه: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم خرجاً مما أنتم فيه»؟ [أنظر السيرة النبوية لابن هشام ومعه شرح أبي ذر الخشني 1/ 397]، ولقد ظلوا ينعمون بهذه الحياة حتى عاد آخر فوج منهم إلى المدينة عام خيبر بقيادة أميرهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه [أنظر الصراع مع اليهود 3/ 88 – 89 نقلاً عن إرشاد الساري 6/ 272 – 273 والسيرة النبوية لابن هشام].
والأيام القليلة التي حكم فيها لا تتسع لغير هذه القواعد والمبادئ التي هي من صميم الإسلام.
نضيف إلى ذلك أن هذا الشعب لم يكن مسلماً بل كان نصرانياً فهل نطبق عليه الإسلام فنلزمه بالصلاة والصوم والزكاة والحج وتحريم الخمر وغير ذلك من الأحكام التي يخاطب بها المسلمون، علماً بأن الأحكام الشرعية لم تكتمل بعد، بل إن كثيراً من الأحكام الشرعية لم تكن قد تنـزلت، وإذا كان الجواب بالنفي وهو كذلك فالاستدلال المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية بهذا الحدث (الذي تم في زمن قصير هو أيام معدودة) استدلال بعيد جداً، لأن الأنظمة القائمة وإن كانت جاهلية، فإن السواد الأعظم من الناس مسلمون قد كملت أحكام الشريعة وهم تواقون للحكم بالأحكام الشرعية، ولكن هذه الأنظمة وحكوماتها تأبى تطبيق أحكام الشريعة في واقع حياة الناس.
وقد يحتج بعض الناس بالمصالح المرسلة على جواز المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية التي تحكم بغير ما أنزل الله، وهذا الاحتجاج ليس في محله، بل هو خطأ فادح في أم واضح، ذلك لأن الاجتهاد إذا لم يصادف محله فهو باطل.
فالمصلحة المرسلة تعرف بأنها مصلحة التي لم يرد في الشرع اعتبارها أو إلغاؤها، فإذا ورد في الشرع نص من كتاب أو سنة يعتبرها أو يلغيها فتكون مصلحة نصيّة وليست مطلقة من النص. ومن ثم فليست مصلحة مرسلة.
وهذا وحين ينص في الشرع على حكم من الأحكام فالمصلحة تتحقق بالتزام هذا الحم، إذ لم يوجب الشرع شيئاً إلا وفي وجوبه مصلحة للبشر، ولم يحرم الشارع الحكيم شيئاً إلا وفي التزامه دفع مفسدة عن البشر، والمسلم مطلوب منه القيام بالواجب والكف عن الحرام، وعلى العموم فإن الأحكام الشرعية النصيّة جاءت لتحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم.
فعلى سبيل المثال إن الله تبارك وتعالى قد حرم الربا فقال سبحانه: ]وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[ فتحريم الربا في الآية جاء لدفع مفاسده عن الناس، ولا مصلحة في نظر الشرع في إباحته، ومن ثم فلا يجوز لأحد أن يقول: إن الربا أصبح ضرورة اقتصادية فلا بأس من التعامل به، لأنه إن قال ذلك فكأنه قد ادعى أنه أعلم من الله عز وجل والله يقول: ]أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ[ ويقول سبحانه وتعالى مقرراً علمه المطلق وجهل غيره: ]وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[.
وعلى هذا أيضاً نقول: إن الموافقة على اتفاقية قرض ربوي من أية مؤسسة ربوية أو شخص يرابي أو أية جهة تتعامل بالربا حرام شرعاً والموافقة تكون مفسدة في نظر الشارع الحكيم، وكذلك التصويت الإيجابي بالموافقة على موازنة الدولة أو المؤسسة التي تتضمن الربا صراحة بمئات الملايين بحجة تحقيق المصالح للناس أمر مرفوض شرعاً، لأن الله حين حرم الربا اعتبره مفسدة، فينبغي أن يعتبره المسلم مفسدة وحراماً ولا يوافق عليه.
وكذلك المشاركة في وزارة نظام جاهلي لا يطبق شرع الله مفسدة لأن النصوص القرآنية قد أكدت على وجوب تطبيق أحكام الشرع وتكفير التحاكم إلى غير شرع الله وتكفير من يحكم بغير شرع الله وتفسيقه ودمغة بالظلم، فلا تخضع المشاركة للمصلحة.
وقد يحتج على دخول الوزارة في الأنظمة الجاهلية بأن هناك فوائد يجنيها المسلمون كتوظيف بعض الشباب وترقيتهم إلى مراكز أعلى ووظائف أرقى في المجتمع، وتدريبهم على قيادة الناس وزيادة خبرتهم، كما يدرأون المفاسد والمكائد عن الحركة الإسلامية، إن كانوا وزراء في الأنظمة الجاهلية، ويقال أيضاً إن في المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية التي لا تحكم بما أنزل إعادة الثقة بالإسلام والمسلمين وأنه دين قادر على تنظيم شؤون الحياة الخاصة والعامة، بإقامة العدل وإزهاق الباطل.
أقول:
أ- إنه مما لا شك فيه أن أي شيء في الغالب له إيجابيات وسلبيات، وله فوائد ومضار قد تكون صحيحة أو غير صحيحة، وحينما حدثنا القرآن الكريم عن الخمر والميسر قال: ]فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا[، ومع هذا فقد حرمهما الله عز وجل فقال سبحانه: ]إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ[ والله عز وجل حرم الخمر والميسر لضررهما الغالب على نفعهما، فهل يصح لنا أن نقول إن الخمر حلال لوجود منافع فيه، وأن الميسر حلال لوجود منافع فيه، وكذلك المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية التي لا تطبق شرع الله فيها فوائد، ولها منافع، فلا نقول إنها مباحة لأن فيها فوائد ومنافع، وقد صرحت النصوص بحرمتها.
ب- وقد توجد منافع في المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية التي لا تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، ولكن هذه المنافع بسيطة بالنسبة للمضار، ويمكن تحصيل هذه المنافع عن غير طريق المشاركة في الوزارة والتدريب على قيادة الناس وزيادة خبراتهم بصورة ومستوى يزيد على الوزارة أو ينقص أو يتساوى.
جـ- بل إن بعض المنافع قد تكون موهومة وليست واقعية، غنما هي وعم في عقول أصحابها، بل قد يقع في عالم الواقع بخلاف ما هو موهوم، فالقول بأن المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية يدرأ المفاسد عن الحركة الإسلامية أمر غير مسلم به على إطلاقه فقد تُؤدي المشاركة في الوزارة إلى جلب مفاسد على الحركة الإسلامية من الحكام الذين نصبوا لها شراكهم ليوقعوها ويشوهوها في نفوس الناس، ثم ليضربوها وما تجربة النميري في السودان عنا ببعيدة، إذ شاركت الحركة الإسلامية في الحكم والوزارة ثم انقض عليها، واعتقل رجالها وقادتها واتهمها بالخيانة، ولولا لطف الله وإرادته بقيام الشعب السوداني ضد النميري وعزله وهم في غياهب السجون لتعرضت الحركة الإسلامية ورجالها إلى أذى كثير بسبب المشاركة في الحكم.
وشاركت الحركة الإسلامية بباكستان في الوزارة في عهد ضياء الحق فماذا حدث؟ لقد ثبت لها أن المشاركة في الوزارة ألحق بها الضرر فقررت الانسحاب من الوزارة وأمرت أعضاءها بالاستقالة، مع أن ضياء الحق قد التزم بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتم العقد بينه وبين الحركة الإسلامية على ذلك، ولكنه لم يف بعهده وعقده.
وشاركت الحركة الإسلامية في السودان بعد عهد النميري في الوزارة فماذا كانت النتيجة؟ لقد كانت فترة الديمقراطية في السودان، ومع هذا وجدت أن المنافع التي رأتها منافع موهومة لم تتحقق فقررت ترك الحكومة، ثم حدث الانقلاب العسكري في السودان فبادرت إلى تأييده، وأعلنت رضاها عنه.
د- والقول بأن المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية تعيد الثقة بالإسلام والمسلمين، حين يرون الوزراء المسلمين يسوسون الأمة بهذا الدين فيعدلون، فهذا أمر محل نظر، فهل سيسمح النظام الجاهلي لهؤلاء أن يسوسوا الناس بالإسلام ويقيموا العدل على الشريف والوضيع، أم ستقف هذه الأنظمة ترفض ذلك؟
إن الأمر سيكون معكوساً إذ لا يستطيع المسلم ولا يتمكن من تطبيق الإسلام والأحكام الشرعية بصورة كاملة متكاملة كما أرادها الله، مما ينفر الناس من الإسلام ومن الدعاة بسبب التشويش والتشويه الذي تعرض له الدين وتعرض له الدعاة.
هـ- وأخيراً لا بد أن نؤكد ما قلناه ابتداءً أننا حين نقول إن النصوص صريحة في عدم جواز المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية وأن ذلك يحرم، فإن هذه الإيجابيات أو الفوائد التي يحتج بها لبعض الناس لا تقف في وجه السلبيات الكثيرة التي قد نعلم بعضها أو جلها أو كلها والتي حرم الله تبارك وتعالى المشاركة في الوزارة من أجلها، فلا يقال: المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية جائزة شرعاً لوجود هذه الإيجابيات القليلة، لأن الصفة الغالبة كثرة سلبياتها بسبب تحريمها¨