التوجه الخاطئ في التنمية
1989/10/06م
المقالات
1,968 زيارة
نشرت مجلة (العربي) الكويتية في عددها رقم 368 (ذو القعدة 1409هـ ـ تموز 1989م) استطلاعاً مصوراً بعنوان: التجربة السعودية في الزراعة. ويظهر من هذا الاستطلاع الخطأ الفادح في انتهاج هذه السياسة في التنمية، ويظهر أن هناك توجيهاً فيه تضليل مقصود وخبيث من خبراء أجانب (أميركان) للمسؤولين السعوديين لصرف السعودية، ذات الأموال الضخمة، عن الصناعة إلى الزراعة، ولإلهائها بشراء الأسلحة (مثل طائرات الأواكس) لتنفق أموالها في تحريك دولاب المصانع الأميركية. وإذا استعملت هذه الأسلحة فليس ضد إسرائيل أو الدول المستعمرة الكافرة، بل لتناحر المسلمين فيما بينهم. وفيما يلي سنعلق على بعض النقاط الواردة في مجلة (العربي) في شأن زراعة القمح.
قالت المجلة: (في العام الماضي بلغ إنتاج المملكة من القمح 3,4 مليون طن) وتقول: (تحتل المملكة العربية السعودية اليوم المرتبة السادسة في العالم من حيث إنتاج القمح وتصديره) وتقول: (ترتبط المملكة بعقود تصدير إلى مناطق واسعة من العالم، مثل الاتحاد السوفياتي، وبعض دول المجموعة الأوروبية، بالإضافة إلى أقطار الخليج العربي والأقطار العربية الأخرى).
لقد استطاعت الدولة في السعودية أن تغري جميع قطاعات الشعب بزراعة القمح. فالدولة تعطي أرضاً وتعطي إعانات مالية وتعطي قروضاً بدون فوائد لمن عنده استعداد لزراعة القمح، وتشتري الإنتاج بسعر تشجيعي. قال المجلة: (إن الدولة… قد استخدمت طرقاً عديدة لجذب المستثمرين وتنشيط هذا القطاع المهم، كالإعانات، والقروض بدون فائدة، ومنح الأراضي، وتوفير الخدمات الفنية المجانية… والأهم من ذلك استقطاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال من قطاعات أخرى للاستثمار في القطاع الزراعي). وتقول: (إن كلفة إنتاج طن القمح 900 ريال ويباع للحكومة بسعر 2000 ريال وسعره العالمي 400 ريال. «الدولار الأميركي يساوي 3,7 ريالات سعودية») وتقول: (كما أن الدولة تتحمل سداد 50% من قيمة المعدات هبة مجانية).
وهذا يفسر لنا سبب هجوم أكثر القطاعات على زراعة القمح. ولكن ماذا تستفيد الدولة حينما تشتري طن القمح من المزارع بـ (2000) ريال وتبيعه بالسعر العالمي بـ (400) ريال بالإضافة إلى ما تدفعه الدولة ثمن معدات، وبالإضافة إلى إغراء مختلف القطاعات على ترك أعمالها المنتجة لتتحول إلى إنتاج القمح. الأفراد لا يلامون إذا تحولوا من أعمال تفيد البلاد إلى أعمال فيها خسارة على البلاد لأنهم يربحون كأفراد، وإن كان ربحهم يجلب الخسارة على البلاد. الذي يلام هو الدولة التي تشجع هذا الاتجاه.
هل تقصد الدولة في السعودية التجربة فقط؟ ولكن التجربة لا تحتاج إلى تعميم هذا الأمر في أكثر مناطق البلاد، ولا تحتاج إلى الارتباط بعقود لتصدير القمح إلى الاتحاد السوفياتي وإلى دول السوق الأوروبية، ولا تحتاج لأن تصبح سادس دولة في العالم منتجة ومصدرة للقمح. ويكفي السعودية، إذا أرادت التجربة أن تنتج حاجتها من القمح، وهي لا تزيد عن 900 ألف طن، حسب قول المجلة.
ولكن الأمر ليس مسألة تجربة، بل هي سياسة مبنية على نصيحة الخبراء الأجانب. فهذا مدير مزرعة العزيزية التي يملكها الأمير مقرن بن عبد العزيز (ربورتو الأميركي الجنسية) يطمئن السعوديين بأن مخزون المياه الجوفية تكفي فترة لا تقل عن 200 عام. وهذا من أجل تشجيعهم على السير في الطريق الزراعي بشكل دائم.
ونحن هنا لا ننتقد أن تعطي الدولة أرضاً لمن يستطيع أن يستصلحها ويزرعها، ولا ننتقد أن تقدم الدولة الإعانات المجانية والقروض للمواطنين لمساعدتهم على الإنتاج، فهذا أمر طبيعي. ولكنا ننتقد الهدر وإضاعة المال بناء على تضليل الخبراء الأجانب.
ونريد أن نتوقف قليلاً عند الدفاع الذي قدمه الأمير فهد بن سلطان بن عبد العزيز أمير منطقة تبوك عن هذه السياسة الزراعية. يقول الأمير، كما نقلت عنه مجلة العربي: إن مزارعي الأرز في اليابان يتلقون أضعاف السعر العالمي في مقابل محصولهم، كما أن أرباب صناعة الألبان السويسرية يجزل لهم الدعم. ولا اعتقد أن اليابانيين والسويسريين لا يفهمون الاقتصاد، فلماذا تتم الإشارة إلى المملكة وكأنها تتركب أخطاء؟ وبالنسبة إلى استنفاد المملكة مياهها الجوفية، فإن المملكة أقرت برنامجها التنموي عندما أيقنت أن لديها ما يكفي من الموارد).
يا سمو الأمير، إنك تستخدم القياس في غير محله، إنه قياس مع الفارق. ولو أنك دققت قليلاً لاكتشفت التضليل في كلام الخبراء الذين ضربوا لك هذه الأمثلة وقدموا لك هذا القياس. إن بعض المناطق في اليابان تنتج الأرز إذ أن أرضها ومناخها تتلاءم طبيعياً وتناسب مع إنتاج الأرز فإذا حصل في بعض المواسم أو بعض المناطق أن حصلت ظروف أودت بالمحاصيل وخسر المزارعون فإن على الدولة أن تساعدهم حتى يعودوا ويقفوا على رجليهم. أما لو رأت اليابان أن بعض مزارعي الأرز يزرعونه في الأرض المالحة حيث تكون زراعته خاسرة فإنها ترشدهم إلى التحول إلى الزراعة في الأرض المناسبة، إذا خالفوا فإنها لا تساعدهم. وكذلك سويسرا فإن طبيعتها تناسب إنتاج الألبان وبشكل مربح عالمياً وليس خاسراً. فإذا حصلت خسارة لبعض منتجي الألبان في ظروف معينة فإن دولتهم تساعدهم. أما أنتم في السعودية فإن إنتاج القمح هو خسارة بشكل دائم وليس لظرف طارئ. وهذا هو القياس الخاطئ. إن بعض المناطق في السعودية تناسب من حيث التربة والمناخ إنتاج التمور، وإنتاجه مربح عالمياً. فلو أصابت بعض المزارعين للنخيل آفات ولحقتهم الخسارة فإن على الدولة أن تساعدهم كي يستطيعوا الاستمرار في الإنتاج. وهنا يستقيم القياس. فاليابانيون والسويسريون يفهمون الاقتصاد، ولكن خبراء الأميركان غشوكم حينما أعطوكم هذه الأمثلة، وكان عليكم أن لا تثقوا بهم بل أن تفكروا بعقولكم، لأنهم يوجهونكم لمصالحهم وليس لمصلحتكم.
ويتابع سمو الأمير: (إن الغلطة الكبرى التي ترتكبها معظم الدول النامية أنها تهمل التنمية الزراعية، قافزة إلى القطاع الصناعي. والزراعة هي مفتاح التنمية، بل ومفتاح الحضارة أيضاً، وأن بالإمكان تطوير القطاع الصناعي بالاعتماد على القاعدة الزراعية، وتطوير كل القطاعات الأخرى انطلاقاً من تلك القاعدة).
إن هذا القول هو خلاصة التوجيه الذي قدمه الخبراء الأجانب (وخاصة الأميركيون) للدولة السعودية التي بدأت تطبقه بدون تفكير. والمؤلم جداً في الأمر أن المسؤولين في السعودية يعتبرون ذلك حقيقة لا تقبل النقاش، وأن الدول التي تخالفها ترتكب غلطة كبرى.
لو قال هذا أهل السودان مثلاً لكُنّا نلتمس لهم عذراً لأن أرضهم ومناخهم تلائم الزراعة فالأرض خصبة والأمطار غزيرة. والعمل في الزراعة في مثل هذه الظروف أمر جيد ومربح. أما أن يقول هذا الكلام من يتكلف 2000 ريال لإنتاج سلعة تساوي 400 ريال، أي خمسة أضعاف سعرها العالمي، فهذا كلام غير مقبول ولا نلتمس له العذر، بل نحن نرثي ونتألم لمستواه الفكري.
وإذا أردنا أن نتعمق قليلاً في المسألة فإننا نجد الحقائق التالية:
1- الدول الصناعية المتقدمة متفقة على حجب أسرار الصناعة (وخاصة الثقيلة) عن الدول النامية (أي المتخلفة) التي يسمونها العالم الثالث.
2- الدول الصناعية المتقدمة متفقة على إسداء النصح للدول النامية كي تتوجه نحو الزراعة لتنصرف عن البحث عن الصناعة من أجل أن تبقى سوقاً استهلاكية لمصنوعات الدول الصناعية.
3- سنة 1955 حين اقترحت النقطة الرابعة على مصر مشروع السد العالي كان الهدف اشغال مصر في مشروع زراعي لإلهائها عن التفكير والبحث في المشاريع الصناعية.
4- بما أن السعودية تعتمد في ثروتها بالدرجة الأولى على البترول، والبترول مادة ناضبة، وحيث أن عائدات البترول بعد سنة 1974 صارت ضخمة، كان من الطبيعي أن تبحث السعودية عن مصدر قوي للثروة تعتمد عليه البلاد بعد نفاذ البترول. وهذا المصدر هو الصناعات الثقيلة السعودية عندها الإمكانات المالية وعندها الحافز لتوجد بديلاً عن الثروة الناضبة. ولو تركت السعودية وحدها لتوصلت إلى أن بناء الصناعات الثقيلة هو الأمر الحتمي لها. ولكن دول الغرب، وخاصة أميركا، صارعت للتضليل، وكان تضليلها ذا ثلاث شعب: الأولى: إيجاد أجواء الحرب والرعب حولها ثم حثها على شراء الأسلحة والاستعانة بالخبراء الأميركان. والثانية: توظيف عائدات البترول، المتبقية بعد شراء السلاح، في شراء الأسهم والعقارات والإبداعات في أميركا وأوروبا كي يصبح هذا المال رهينة كما جمدوا أموال إيران. والثالثة: الاشتغال بالسياسة الزراعية لإلهائهم عن الصناعة بالزراعة، وخداعهم بأنهم حققوا معجزة بتحويل الصحراء إلى جنة خضراء.
ويقول لنا سمو الأمير بأنه لا يجوز إهمال التنمية الزراعية والقفز إلى القطاع الصناعي، وكأنها درجات السلم. ولو كان الأمير في مصر أو السودان أو الشام أو أي بلد زراعي لالتمسنا له عذراً.
والأمير يتجاوز الحديث عن التنمية إلى الحديث عن الحضارة فيقول بأن الزراعة هي مفتاح الحضارة! فهل كان محمد صلى الله عليه وآله وسمل، حين جاء بأرقى حضارة للإنسانية جمعاء، هل مهد لها بالتنمية الزراعية، أو هو انطلق من واد غير ذي زرع؟
1989-10-06