بسم الله الرحمن الرحيم
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في لبنان أحمد القصص:
«دولة مدنية أو ديمقراطية بمرجعية إسلامية؟!
قل: هل يستوي الخبيث والطيب؟!»
هل يمكن تصوّر دولة علمانية بمرجعية إسلامية؟ كيف والمدنية والديمقراطية هما من مشتقات العلمانية؟! وهي فصل الدين عن الحياة والمجتمع والدولة.
لنبدأ بمصطلح المدنية:
في اللغة العربية: المدنية نسبة إلى المدينة، فما يُنسب إلى المدينة هو «مدني»، ومن ذلك قولنا في السور التي نزلت في المدينة «مدنية»، وقولنا في الشطر الثاني من السيرة النبوية «المرحلة المدنية» مقابل «المرحلة المكية». ولكنّ مصطلح «الدولة المدنية» مصطلح معاصر، فيجب الحكم عليه بناء على دلالته الاصطلاحية المعاصرة، ولا يصح الحكم عليه بناء على دلالته اللغوية. كما أنه لا يصح الحكم على «الاشتراكية» و«الشيوعية» و«الرأسمالية» بناء على المعنى اللغوي للكلمات. فما المقصود «بالدولة المدنية» التي يجري الكلام عليها في العصر الحاضر؟
إن «الدولة المدنية» هي مرادف «للدولة العلمانية»، أي الدولة المنفصلة عن الدين، والتي لا يشكّل الدين أساسًا لها، وتُقصي الدين عن السياسة والتشريع والحياة العامة. وقد نشأ هذا المصطلح في الفكر الأوروبي في الحقبة المعروفة بعصر النهضة في مواجهة ما عُرف «بالدولة الدينية» التي يزعم فيها الحاكم أنه يستمد سلطانه من الله، بناء على ما يعرف بنظرية «التفويض الإلهي»، وهي النظرية التي سادت طوال قرون من الزمان في أوروبا في الحِقَب التي يطلقون عليها «العصور الوسطى». فكان أن وُجد في عصرهم الحديث (ما قبل تاريخهم المعاصر الذي ابتدأ بالثورة الفرنسية الكبرى سنة 1789م) فلاسفة عُرفوا بفلاسفة التنوير، نادوا بفصل الدين عن الدولة، ودعوا إلى «الدولة المدنية» مقابل «الدولة الدينية».
والحقيقة أن كلا المصطلحين «الدولة الدينية» و»الدولة المدنية» لا يجوز أخذهما ولا اعتمادهما للتعبير عن الدولة في الإسلام، وهي الدولة التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم واستمر فيها المسلمون بعده مئات السنين. فهي ليست «دولة دينية» بالمعني الاصطلاحي المعاصر، لأن الحاكم لا يستمد فيها سلطانه من الله، وإنما يستمده من الأمة، ولأنها ليست دولة رجال الدين، إذ لا وجود لرجال الدين في الإسلام، ولا وجود لما يسمى بالمؤسسة الدينية ولا للسلطة الدينية. وهي ليست «دولة مدنية» أيضًا، لأنه لا فصل في الإسلام بين الدين والدولة. فالدولة الإسلامية كيان سياسي يقوم على أساس العقيدة الإسلامية، وتَرعى شؤونَ الناس بالشريعة الإسلامية. والحاكم فيها (الخليفة) يستمد سلطانه من الأمة من طريق البيعة، ولا يتمتع بأي تفويض إلهي ولا بأي حصانة من المحاسبة والعقاب، ولا يستمد سلطانه أيضًا من أي مؤسسة دينية – ولا وجود أصلاً لهذه المؤسسة في الإسلام كما أسلفنا- بل هو عرضة للعزل في بعض الحالات مِن قِبل محكمة المظالم وفق نظام مخصوص فصّلته الشريعة الإسلامية. لذلك يجب الحذر من الوقوع في فخ السؤال: هل الدولة في الإسلام دينية أم هي مدنية؟ فهو كمن يسأل: هل الاقتصاد في الإسلام اشتراكي أم هو رأسمالي؟ بينما الإسلام لا شأن له بهذه التصنيفات، فهو لا هذا ولا ذاك، بل هو إسلام وحسب.
ومما يُثبت أن «الدولة المدنية» تعني الدولةَ العلمانيةَ الاستخداماتُ المعاصرة الشائعة لتعبير «المدني». ألا ترى أن القضاء المدني هو مقابل القضاء الشرعي، أي قضاء يحكم بالقوانين الوضعية بدل الشريعة الإسلامية؟ والزواج المدني هو مقابل الزواج الشرعي؟ والقانون المدني هو مقابل الشرائع السماوية؟ والتربية المدنية هي مقابل التربية الدينية؟ والمراجع المدنية هي مقابل المراجع الدينية؟…
وعليه فإن «الدولة المدنية» هي الدولة التي تطبق تشريعات وضعية شُرعت وجُعلت أنظمة وقوانين للدولة من خلال موافقة السلطة التشريعية (مجلس النواب أو البرلمان) عليها.
وقد يقول قائل: «إنه يمكن للسلطة التشريعية في الدولة أن تصوّت بالموافقة على قوانين مستمدّة من الشريعة الإسلامية فتصبح الدولة بهذا الإجراء إسلامية»، وهذا خطأ فادح، لأن هذا الإجراء لا يجعلها دولة إسلامية، لسببين اثنين:
أولهما: إن هذه التشريعات لم تكتسب شرعيتها بوصفها أوامر ونواهي من الله تعالى يجب الإذعان لها بناء على الإيمان بالعقيدة الإسلامية، وإنما استمدّت شرعيتها من ناحية أن السلطة التشريعية المنتخبة هي التي أقرتها، أي باعتبارها تشريعًا من البشر لا من الله تعالى. كما أن بإمكان المجلس الذي أقر هذه القوانين أو الذي يأتي بعده أن ينقضها ويبدلها في أي وقت بتشريعات أخرى غيرها. وهذا ما يجعل السيادة للشعب ممثَّلاً بمجلس النواب بدل أن تكون السيادة العليا للشرع، وبالتالي فإن هذا يكون تحاكمًا إلى الطاغوت لا إلى الشرع. قال تعالى: ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [.
ثانيهما: إنه كما أُعطيت هذه السلطة صلاحية أن تستمد بعض القوانين من الشريعة الإسلامية فكذلك أعطيت صلاحية تشريع قوانين أخرى أو استمدادها من غير الشرع، ما يعني التسوية ما بين شرع الله تعالى وما سواه من شرائع البشر، وما يعني أيضًا أن الدولة ستطبق قوانين غير إسلامية إلى جانب تلك المستمدة من الشريعة الإسلامية، ويترتّب على ذلك أن الدولة ليست إسلامية لأنها تحكم بغير ما أنزل الله تعالى، قال عز وجل: ] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [.
وعليه فإن الدولة المدنية هي دولة علمانية، أي دولة تحكم بغير ما أنزل الله. كما أن من مقتضيات الدولة المدنية أن يجري انتخاب رئيس الدولة دون النظر إلى كونه مسلمًا أو غير مسلم، بحيث يُسمح لغير المسلمين الترشح إلى منصب رئاسة الدولة ويُسمح لمن يشاء من الناس انتخابهم. وهذا من المحرمات قطعًا، قال تعالى: ] وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [. كما تفرض الدولة المدنية أن يتاح المجال أمام جميع التيارات الفكرية والسياسية من إسلامية وعلمانية أن يكون لها أحزابها ونشاطها السياسي والإعلامي وحقها في الترشيح لانتخابات مجلس النواب ورئاسة الدولة. وهذا بالطبع يحرمه الإسلام، لأن وظيفة الدولة في الإسلام ليست حماية الحرّيات العامة كما هو شأنها في النظام الديمقراطي، بل وظيفة الدولة هي تطبيق الإسلام في سياستها الداخلية وحمل الإسلام رسالة إلى العالم في سياستها الخارجية. كما أن الدولة هي في حقيقة أمرها هي تجسيد لمجموعة القناعات والأفكار والمقاييس التي تعتنقها الأمة صاحبة الدولة. فإذا كانت الدولة منتمية إلى الأمة الإسلامية ومعبِّرة عنها وجب أن تكون مجسِّدة لطريقة العيش الإسلامية ومنفِّذة للمفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية، آمرةً بما أمر الله تعالى به وناهيةً عما نهى عنه، قال تعالى: ] الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [.
ويجدر بنا أن نلاحظ أن مصطلح «الدولة المدنية» بدأ يروج في العالم العربي في العقود الأخيرة بعدما انهزمت الفكرة العلمانية وتحوّلت لدى المسلمين سُبَّة على صاحبها، فانتقل العلمانيون إلى ترويج مصطلح آخر ملتبس يحمل المعنى نفسه، ولكنه أكثر قبولاً لدى المثقّفين المسلمين ولدى الرأي العامّ عمومًا، فكان أن اعتمدوا مصطلح «الدولة المدنية». ثم أتت الثورات مع نهاية عام 2010م لتصبح الحاجة أكثر إلحاحًا لهذا المصطلح، إذ اعتمده الحكام الجدد ليقنعوا الأسرة الدولية من جهة أنهم لم يتبنوا مشروع الدولة الإسلامية، وليقولوا للشعوب التي حكموها من جهة أخرى: إننا لا نعني بالدولة المدنية الدولة العلمانية، وإنما نعني الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية.
نعرف أن بعض الذين يروِّجون للدولة المدنية – أو على الأقل يقبلون بها- يبرّرون ذلك بأنهم يقصدون بالدولة المدنية الدولة غير العسكرية، أي التي لا يحكمها العسكر. والحقيقة أن هذا المعنى لا يسوّغ تبني مصطلح «الدولة المدنية». فصحيح أن اصطلاح «المدني» يُستخدم في أحد معانيه المعاصرة مقابلَ «العسكري»، إلا أن مصطلح «الدولة المدنية» في الغالب الأعمّ هو عَلَمٌ على الدولة العلمانية. فضلاً عن أن وصف الدولة بأنها «لا عسكرية» لا يعطيها أي هوية ولا يعطي أي صورة عن نظامها، وإنما فقط ينفي عنها صفة الحكم العسكري، فهو ليس تعريفًا لهوية الدولة ونظامها، وإنما هو فقط نفي لصفة العسكرية عنها. فإن سلّمنا لهؤلاء بأنهم يقصدون بالدولة المدنية الدولة غير العسكرية وجب علينا أن نسألهم: وما نظام هذه الدولة غير العسكرية التي تدعون لها؟
وفي كل الأحوال فإن الأصل في المصطلحات أن تكون بعيدة عن الالتباس، فما أدّى إلى التباس المعاني – ولا سيما التباس ما أمر الله تعالى به أو أباحه بما نهى عنه وحرّمه – وجب إسقاطه وهجرانه. لذلك حين استخدم يهود المدينة عبارة «راعنا» للنيل من كرامة الرسول عليه الصلاة والسلام، بما تحمله العبارة من معنى مسيء، نهى الله تعالى المؤمنين عن استخدامها وأمرهم باستبدال عبارة أخرى بها لا تحمل أي التباس، فقال عزَّ مِن قائل: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [. وقد نهانا الله تعالى عن أن نلبس الحق بالباطل، فقال: ] وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [.
ومما يلفت النظر أن بعض الرموز المصنَّفة «إسلامية» وتدّعي أنها تمثل الثورة والتي تتبنى مطلب الدولة المدنية صرّحت بكل وضوح أن صاحب الحق في اختيار القوانين وإقرارها ورفضها هو الشعب، وأنها لا تمانع أن يكون رئيس الدولة غير مسلم! ولا تمانع تنافس الأحزاب العلمانية من شيوعية ورأسمالية وقومية وغيرها مع الأحزاب الإسلامية لتداول السلطة بينها، بحيث تنتقل السلطة من حزب إلى آخر من طريق الانتخابات، فتارة يَحكمُ الدولةَ (إسلاميٌّ) وأخرى علمانيٌّ شيوعي أو لبرالي أو قومي… ما يعني أنهم يدرون وهم يطالبون بهذه الدولة أنها دولة لا تحتكم إلى الإسلام ولا تجعله أساس الدولة ولا هويّتها الخالصة.
أما الديمقراطية فهي أكثر وضوحًا من «الدولة المدنية». فالديمقراطية هي نظام للحكم منبثق من عقيدة فصل الدين عن الحياة التي يعتنقها الغرب الرأسمالي. فعقيدة فصل الدين عن الحياة اقتضت أن يكون الحق في اختيار طريقة العيش والأنظمة والقوانين التي تنظِّم علاقات الناس في المجتمع هي من حق الشعب وحده، فضلاً عن حقه في اختيار حكّامه الذين يتولون رعاية شؤونه. فكانت الديمقراطية وفق تعبيرهم تقوم على قاعدتين هما: أن السيادة للشعب وأن الشعب مصدر السلطات. ومعنى كون السيادة للشعب أنه صاحب الحق في تشريع الأنظمة والقوانين للمجتمع والدولة. لذلك كانت السلطة التشريعية المتمثلة في مجلس النواب أو البرلمان وما شاكلهما الركيزة الأولى للدولة الديمقراطية. هذا طبعًا من الناحية النظرية للديمقراطية، إلا أن المشرِّع الفعلي للدولة العلمانية الديمقراطية ليس هو الشعب ولا السلطة التشريعية التي تمثّله. إذ إن معظم أعضاء مجالس النواب لا دراية لهم لا من قريب ولا من بعيد بشؤون التشريع. والذي يحصل في كل الدول الديمقراطية أن لجانًا تأسيسية أو لجانًا تشريعية مصغّرة تصوغ القوانين، وقد تكون هذه اللجان صنيعة دول كبرى وقد تكون صنيعة الحاكم المتسلط وقد تكون صنيعة الرأسماليين أصحاب النفوذ الذين أوصلوا النواب إلى البرلمان، فتضع مشاريع القوانين التي تكفل مصالحهم الخاصّة، ثم تُعرض بعد ذلك على المجلس النيابي المسمّى سلطة تشريعية ليصوِّت عليه، فإن نال الغالبية المطلوبة ولو بفارق صوت واحد صار هذا التشريع قانونًا في الدولة. وفي كلّ الأحوال، فسواء أكان المشرِّع هو البرلمان أم اللجنة التأسيسية أم اللجنة المصغَّرة أم مَن وراءهم جميعًا أم الشعب الذي انتخبهم وأقرّ ما أقرّوه، فإن المشرّع في جميع هذه الحالات هو عقول الناس القاصرة وأهواؤهم المنحرفة، ما يعني أن هؤلاء المشرِّعين أعطوا أنفسهم حق التشريع الذي هو حقّ حصري لله، قال تعالى: ] وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [. وقال عز وجل: ] ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [.
أما في الدولة الإسلامية فإن السيادة للشرع، لا للأمة أو الشعب، ولا لأحد من المشرعين، بمعنى أنه ما من حق لأحد في الدولة، لا من السلطة ولا من الشعب، أن يختار النظام للمجتمع والدولة، إذ النظام والقانون الملزِم للجميع هو الشرع الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [، ما يعني أن أي شكل من أشكال الاستفتاء على التشريعات التي شرعها الإسلام، بحيث يعطى الناس حقّ قبول الأحكام الشرعية ورفضها فيتساوى قبولها ورفضها، هو من أعظم المحرمات.
أما القاعدة الثانية التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام فهي أن «السلطان للأمة»، بمعنى أن صاحب الحق في اختيار الحاكم وتنصيبه من طريق البيعة هي الأمة، ومن حقها وواجبها كذلك أن تراقب الحاكم وتحاسبه، ما يقتضي وجود «مجلس الأمة» الذي يشكِّل أعضاؤه ما يسميه الفقهاء «أهل الحل والعقد» والذين ينوبون عن الأمة باعتبارهم وكلاء منتخبين بحصر المرشحين لمنصب الخلافة وربما اختيار الخليفة إن اقتضى الأمر، كما ينوبون عنه في محاسبة السلطة، بدءًا بالخليفة وانتهاء بآخر من يليه، ويكونون مرجعًا للدولة لمعرفة آراء الأمة والقيام بواجب مشورتها تنفيذًا لقوله تعالى: ] وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [. وحين أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية من وفد الأنصار إلى مكة قبيل الهجرة إلى المدينة قال لهم: «أَخْرِجُوا إِلَىَّ مِنْكُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ». إلا أن مجلس الأمة الذي ينتخبه رعايا الدولة ليس له صفة السلطة التشريعية كالدولة الديمقراطية، وإنما هو مجلس ينوب عن الناس في مشورة الدولة والتعبير عن رأيهم ومطالبهم وينوب عنهم في محاسبة السلطة السياسية. وبالتالي فإنه لا وجود للسلطة التشريعية في الدولة الإسلامية بالمعنى الذي تحمله فكرة «الدولة المدنية» أو «الدولة الديمقراطية».
ويجب التنبّه إلى أن شيئًا من الشبه بين نظامين لا يعني أنهما شيء واحد، وحاشا لنظام الإسلام أن يساوَى بغيره من أنظمة البشر. فكون السلطان للأمة وأنها هي التي تختار حاكمها وكذلك وجود الشورى ومجلس الأمة في الدولة الإسلامية، لا يعني البتة أنها دولة ديمقراطية، لِما سبق توضيحه من واقع الديمقراطية ومناقضتها للإسلام من حيث الأسس والتفاصيل. وعليه فإن الجمع بين الديمقراطية والإسلام وبين الدولة المدنية والإسلام هو جمع لمتناقضين، جمع للطيب والخبيث، والله تعالى لا يقبل إلا طيبًا خالصًا.
وكما أنه يجب أن نحذر الوقوع في فخّ السؤال: «هل الدولة الإسلامية مدنية أم هي دينية؟»، فكذلك يجب أن نحذر الوقوع في فخ السؤال: «هل الدولة الإسلامية ديمقراطية أم هي دكتاتورية؟»، فهي لا هذه ولا تلك، بل هي إسلامية وحسب، لها نظامها المتميز الذي لا يوصف بأوصافِ غيره من الأنظمة.
على أن مصطلح الدولة المدنية أو الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية له دلالته عند من يُطلقه ويسوّقه، ولا سيما من العلمانيين ومن سار في ركابهم ممن يسمَّون إسلاميين، وهي إعطاء الإسلام دورًا ما في التشريع والممارسة السياسية، دون أن يكون هو الأساس للدولة والمهيمن على دستورها وقوانينها، ودون أن تكون السيادة خالصة له. وهم يعبّرون عن هذا المعنى حين تنصّ دساتيرهم على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر من مصادر التشريع للدولة، أو المصدر الأساسي أو المصدر الرئيس للتشريع. بينما الواجب الذي لا مراء فيه ولا اجتهاد أن الشريعة الإسلامية ليست مصدرًا من مصادر التشريع، وليست هي حتى المصدر الوحيد للتشريع، وإنما هي التشريع نفسه الذي تعتمده الدولة، ومصدرها هو القرآن والسنة وما أرشدا إليه من الأدلة الشرعية. قال تعالى: ] ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [، وقال: ] الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [. ومن دلالات هذا المصطلح أيضًا عند بعض من يتبنَّونه أو يستخدمونه أن يكون ثمة مكانة في التشريع والدولة لقيم ومعانٍ أساسية أتى بها الدين، على غرار دولة (إسرائيل) التي هي علمانية في واقعها من حيث إنها تعتمد الأنظمة والقوانين الوضعية ومن حيث إنها لم تتبنّ شرائع التوراة نظامًا للدولة، إلا أنها تراعي في تشريعاتها وممارساتها السياسية الهوية القومية والدينية لليهود من حيث هم أتباع ديانة معيّنة. أو على غرار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية الذين حرصوا على الاحتفاظ ببقيةٍ من تعاليم النصرانية، من مثل تحريم الإجهاض وزواج المثليين وما شاكل ذلك، دون أن يلغي هذا الحرص علمانيةَ الدولة. فهل هذا ما أُمر به المسلمون؟! أن يقيموا دولة علمانية تحترم مشاعر الناس الدينية وتحتفل ببعض المناسبات الدينية وتنشر بعض المظاهر الإسلامية وتمنع بعض المظاهر المنافية للدين، مع الاحتفاظ بالدساتير والقوانين الوضعية؟! الجواب بكل تأكيد: لا. ولنتذكر دائمًا تحذير ربّنا عزّ وجلّ إذ قال: ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [. فأي تحاكم إلى أي تشريع شرعه البشر هو تحاكم إلى الطاغوت، وهو من أعظم الكبائر عند الله تعالى.
أخيرًا من حقنا أن نسأل السؤال التالي: هل كان لهذه الإشكالية أن تُتداول وتُطرح للنقاش لولا أن دول الغرب وأتباعها من العلمانيين يسعون إلى فرضها على دول الثورات في بلاد المسلمين؟ وهل كان بعض المخلصين ليتقبّلوا هذه الفكرة وهذا المصطلح لولا مراعاتهم جانب هذه الدول والأنظمة الإقليمية والعلمانيين في صفوف المعارضة السورية؟!
وعليه نقول: إن من يتطلّع إلى دولة ترضي الأسرة الدولية والأنظمة الإقليمية هو واحد من اثنين:
– إما أنه لا يتطلّع إلى دولة ذات سيادة تستمدّ سلطانها الكامل من الأمة، وقد جعل غاية همّه إسقاط الطاغية فقط دون إسقاط نظامه العلماني ودون التخلص من الهيمنة الغربية على البلاد، وهذا يكون قد ثار على باطل ورضي بما هو أبطل منه.
– وإما أنه لا يعرف حقيقة الأسرة الدولية والأنظمة الإقليمية، فيتوهم أن الأسرة الدولية ومعها الأنظمة الإقليمية سترضى عن دولتنا العتيدة وتزول هواجسها بمجرّد أن نُطَمئنها بالقول إننا نسعى إلى دولة مدنية، لا إلى دولة إسلامية ولا إلى دولة الخلافة! والواقع الذي لا مراء فيه أن هذه الدول جميعًا، وبخاصة أميركا ذات النفوذ الأقوى، لا يرضيها إلا أن تكون الدولة العتيدة جزءًا من السياسة الدولية، وأن تفتح المجال واسعًا أمام العلمانيين داخل البلاد ليكون لهم دور كبير في السياسة الداخلية، إن لم يكن الدور الأول، وليكون لهم أحزاب تلوّث الأجواء السياسية وفضائيات تفتك بعقول الناس وبالرأي العامّ. ولن يرضي هذه الدولَ إلا أن تخضع الدولة للاقتصاد العالمي الرأسمالي (العولمة)، وأن تقع في فخ الديون الخارجية بذريعة إعادة الإعمار، وأن تفتح البلاد أمام الشركات الاستثمارية العالمية لتنهب ثرواتها، وأن تمتنع عن معارضة السياسة الغربية في المنطقة، وأن تحافظ على جبهة الجولان هادئة بل أن تنتقل إلى الاعتراف الرسمي بكيان يهود، وأن تمتنع عن نصرة أهل فلسطين المحتلّة، وأن تخذل المسلمين الذين ناصروا الثورة في العراق ولبنان وغيرهما… وما مَثَلُ مصر ما بعد سقوط الطاغية عنا ببعيد. فهل هذا ما قامت الثورة من أجله؟! أن تتخلص من الطاغية لتقدّم البلاد على طبق من فضة للكافر المستعمر؟! فتخون دماء مئات الآلاف من الشهداء والجرحى وتضحيات الأبرياء الخلّص من أهل سوريا وتقدّمها هدية إلى الأعداء الحقيقيين أسياد الطاغية البائد؟! فآنئذ بئس الورد المورود. قال تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [.
والحقيقة التي يعرفها كل واعٍ مدرك للواقع السياسي وجذوره التاريخية أن المشكلة الكبرى في العالم الإسلامي لم تبدأ مع الحكام الطغاة من أمثال آل أسد وبن علي والقذافي ومبارك… فهؤلاء ليسوا سوى الثمرات المرّة للنكبة الأساسية، ألا وهي إسقاط الدول العظمى الغربية لدولة الخلافة التي كانت المجسّدة لهوية الأمة والمطبّق لشريعتها ونظامها، على ما أصابها في أواخر عهدها من انحراف وسوء تطبيقٍ للشرع، ثم ما ترتب على إسقاط دولة الخلافة من تطبيق أنظمة الكفر في العالم الإسلامي ومن تقسيم البلاد الإسلامية على أسس قومية ووطنية، ومن هيمنة دول الغرب على الأمة الإسلامية سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا وأمنيًّا. ولم يكن الطغاة المجرمون الذين حكموا الأمة وساموها سوء العذاب سوى أدوات لتلك الهيمنة الدولية. وبالتالي فإن معركتنا مع هؤلاء الطغاة لإسقاطهم يجب أن يُنظر إليها على أنها معركة لقطع دابر النفوذ الغربي من بلادنا وإعادة سيادة الشريعة واستعادة السلطان المغصوب إلى الأمة، ولإعادة وحدة العالم الإسلامي انطلاقًا من القطر الذي يسبق إلى الانعتاق من هذه الهيمنة. أما أن نُسقط نظام الطاغية ثم نسلّم الحكم للطواغيت فمَثَلُنا حينئذ كما قال تعالى: ] كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا [.
مَن الذي أعان الثائرين المخلصين على تحقيق ما حقّقوه حتى الآن من انتصارات على جند الطاغية غير الله تعالى؟ ومَن أخزى الذين يمكرون مكر الليل والنهار لإجهاض هذه الثورة من دول الغرب والأنظمة الإقليمية غيره سبحانه؟ إنه مصداق قوله عز وجل: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [. أما إذا طلبنا النصر من أعداء الله فلا شك ساعتئذ أن الله تعالى خاذلنا، فإن خَذَلنا فهل لنا من نصير من بعده، قال تعالى: ] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [. فما دمنا نؤمن أن الله تعالى هو ناصرنا وأنّ عليه توكُّلُنا؛ فالواجب إذًا أن نراعي رضاه في نهجنا فنلتزم أوامره ونواهيه بدلاً من مراعاة جانب أعدائه، قال تعالى: ] أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [. وإن أعداءه لن يغنوا عنا منه سبحانه شيئًا، قال سبحانه: ] إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [، وقال جل وعلا: ] فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ [.
وفي النهاية إليكم آيات من كتاب الله كفيلة بالإجابة على كثير من التساؤلات المتداولة في اللحظة التاريخية التي تمر بنا، وتصف إلى حد كبير حال الذين يسارعون في الكافر المستعمر وأتباعه طالبين رضاهم:
] وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) [.q