دور العقل في الشريعة الإسلامية
1989/05/06م
المقالات
2,655 زيارة
(هذا المقال هو مقتطفات من كتابات الشهيد سيد قطب رحمه الله جمعناها من كتبه ورتبناها بشكل يجعل منها مقالاً كاملاً، يعبر بدقة عن رأي الشهيد رحمه الله. والله من وراء القصد).
دور العقل:
إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة، ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول(…) وليس دور العقل أن يكون حاكماً على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض، بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله، وبعد أن يفهم المقصود بها، أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص (…) فهذه الرسالة تخاطب العقل بمعنى أنها توقظه وتوجهه وتقيم له منهج النظر الصحيح… لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها وبقبولها أو رفضها. ومتى ثبت النص كان هو الحكم، وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه سواء كان مدلوله مألوفاً له أو غريباً عليه (…) فالمنهج الصحيح في التلقي عن الله هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة ـ بعد أن يدرك المقصود بها ـ بمقررات له سابقة عليها، كوَّنها لنفسه من مقولاته المنطقية أو من ملاحظاته المحدودة أو من تجاربه الناقصة… إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة، ويكون منها مقرراته هو، فهي أصح من مقرراته الذاتية ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي، ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين ـ متى صح عنده أنها من الله ـ إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص! فالعقل ليس إلهاً ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله (…) فإذا قال الله سبحانه: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ[ ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا[ ]وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى[ ]وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ[… إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية فالحق هو ما قال سبحانه، وليس للعقل أن يقول ولكني أرى المصلحة في كذا وكذا. [الظلال ج2/ص806 ـ 808].
أنه لا بد من ضوابط للحياة… حياة المرء مع نفسه وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة… الناس من الأقربين والأبعدين، ومن الجماعة والأمة، ومن الأصدقاء والأعداء… والأحياء مما سخر للإنسان يسخر… والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض… ثم حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة. والإسلام يقيم هذه الضوابط في حياة الناس، يقيمها ويحدده بدقة ووضوح، ويربطها كلها بالله سبحانه فلا يكون الأمر فيها للأهواء والشهوات المتقلبة، ولا للمصالح العارضة التي يراها فرد أو تراها مجموعة أو تراها أمة أو يراها جيل من الناس فيحطمون في سبيلها تلك الضوابط؛ فهذه الضوابط التي أقامها الله وحددها هي «المصلحة» ما دام أن الله هو الذي أقامها للناس… هي المصلحة ولو رأى فرد أو رأت مجموعة أو رأت أمة من الناس أو جيل أن المصلحة غيرها! فالله يعلم والناس لا يعلمون! وما يقرره الله خير لهم مما يقررون! وأدنى مراتب الأدب مع الله سبحانه أن يتهم الإنسان تقديره الذاتي للمصلحة أمام تقدير الله. أما حقيقة الأدب فهي أن لا يكون له تقدير إلا ما قدر الله، وألا يكون له مع تقدير الله إلا الطاعة والقبول الاستسلام مع الرضى والثقة والاطمئنان. [الظلال ج2/ص835].
مصلحة الدعوة:
قد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات ـ بعد الرسل ـ والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها، تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلاً فيها، ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصموها! ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة ولا مع منهج الدعوة المستقيم، وذلك حرصاً على سرعة الدعوة وانتشارها، واجتهاداً في تحقيق «مصلحة الدعوة».
ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج دون انحراف قليل أو كثير، أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله، فلا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج، إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق، وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة لله، ولن تكون إلا خيراً في نهاية المطاف (…).
إن كملة «مصلحة الدعوة» يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات، لأنها مزلة ومدخل للشيطان يأتيهم منه (…) إن على أصحاب الدعوة أن يستقيموا على نهجها ويتحروا هذا النهج دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج قد يلوح لهم أن فيها خطراً على الدعوة وأصحابها! فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف كثيراً أو قليلاً. والله أعرف منهم بالمصلحة وهم ليسوا بها مكلفين، إنما هم مكلفون بأمر واحد: ألا ينحرفوا عن المنهج، وألا يحيدوا عن الطريق. [الظلال ج4/ص 2435 ـ 2436].
أصحاب الرسالات يرفضون المشاركة:
إن التجمع الجاهلي بطبيعة تركيبه العضوي، لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي، ولتوطيد جاهليته! والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناسٌ لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع ولحساب منهجه وتصوره… لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها [الظلال ج4/ص2092] ]وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ[ فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص، إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم ويندمجوا في تجمعهم ويذوبوا في هذا المجتمع أو أن يطردوهم بعيداً وينفوهم من أرضهم. ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي (…) ولم يقولوا ـ كما يقول ناسٌ ممن لا يدركون حقيقة الإسلام ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات -: «حسناً! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم [الظلال ج4/ص2101] لأن وجودهم على هذا النحو ـ مهما كثر عددهم ـ لا يمكن أن يؤدي إلى وجود فعلي للإسلام، لأن الأفراد «المسلمين نظرياً» الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية، سيتحركون ـ طوعاً أو كرهاً بوعي أو بغير وعي ـ لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده، وسيدافعون عن كيانه، وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه، لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا.. أي أن الأفراد المسلمين «نظرياً» لإزالته، وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا بها ويقوى، وذلك بدل أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي لإقامة المجتمع الإسلامي [معالم في الطريق: نشأة المجتمع وخصائصه].
الدين أساس التحرك وليس الواقع:
الدين لا يواجه الواقع أياً كان ليقره ويبحث له عن سندٍ منه، وعن حكم شرعي يعلقه عليه كاللافتة المستعارة، إنما يواجه الواقع ليزنه بميزانه، فيقر منه ما يقر، ويلغي منه ما يلغي، وينشئ واقعاً غيره إن كان لا يرتضيه. [معالم في الطريق: (لا إله إلا الله) منهج حياة].
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحد منها، أو يخلط واحداً منها بواحد كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر، إن هذا في سبيل الشيطان سائر على خطوات الشيطان. ليس هنالك حل وسط، لا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل، هدى ضلال، إسلام وجاهلية [الظلال ج1/ص211]. ليس هناك أنصاف حلول ولا التقاء في منتصف الطريق ولا إصلاح عيوب ولا ترقيع مناهج.. إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان، الدعوة بين الجاهلية، والتميز الكامل عن الجاهلية ]لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[… وبغير هذه المفاصلة سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع، والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة، إنها لا تقوم إلى على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح، وهذا هو طريق الدعوة الأول ]لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[ [الظلال ج6/ص3993].
لسنا مسؤولين عن النتائج:
ليس للدعاة في أنفسهم شيء، وليس لهم من أمرهم شيء، إنما هم وما ملكت أيديهم لله، يصرفهم كيف يشاء، ويختار لهم ما يريد، وإن هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام. وخالق هذا الوجود ومدبره يحركهم مع حركة الوجود العام، ويقسم لهم دورهم في رواية الوجود الكبيرة ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم. وليس لهم أن يختاروا الدول الذين يقومون به، لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح، وإن هم إلا أجراء، لهم أجرهم على العمل، وليس لهم ولا عليهم في النتيجة [الظلال ج5/ص2866]. إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ثم يذهبوا، وواجبهم أن يختاروا الله، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة، وأن يصدقوا الله بالعمل والنية، ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء، وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان أو إلى غيرها مما يعلمه هو يراه. إنهم أجراء عند الله، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا عملوا وقبضوا الأجر المعلوم، وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير. وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب، ورفعة في الشعور، وجمالاً في التصور، وانطلاقاً من الإرهاق والجواذب، وتحرراً من الخوف والقلق، في كل حال من الأحوال. وهم يقبضون الدفعة الثانية ثناء في الملأ الأعلى وذكراً وكرامة، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة. ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حساباً يسيراً ونعيماً كبيراً. ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعاً: رضوان الله. [معالم في الطريق: هذا هو الطريق].
1989-05-06