أصول الدين يجب أن تكون يقينية ولا تكفي فيها غلبة الظن
1989/05/06م
المقالات
4,455 زيارة
الحلقة الثانية
(الحلقة الأولى نشرت في العدد العاشر ـ السنة الثانية)
صدر في بيروت كتاب (الأدلة والشواهد…) من تأليف سليم الهلالي يتهجم فيه على من يقول بأن العقائد يجب بناؤها على اليقين ولا تكفي فيها الأدلة الظنية.
وقد كتب المؤلف في مقدمة الكتاب ص9 العبارة التالية: (ومن وجد في عملي هذا خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يألُ جهداً في نصحي بالتي هي أحسن للتي هي أقوم، فإن النصح شرعة لمن صلحت نيته، وصفت سريرته وطويته).
ونحن قد وجدنا في الكتاب خيراً وحمدنا الله، ووجدنا فيه غير ذلك. وهنا نحن نحاول تقديم ما يوفقنا الله إليه من نصح له ولمن قرأ كتابه ولمن يرى رأيه. ونسأل الله أن يجعله ويجعلنا جميعاً من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
في الحلقة السابقة ناقشنا فكرة خطرة على العقيدة أوردها المؤلف في ص39 من كتابه، وخلاصتها أنه يزعم أن الإيمان بالله وبالرسول والقرآن… وسائر أصول العقائد هو صحيح ومقبول عند الله ولو كان تبعاً للسادة، ولو كان تقليداً أعمى بدون أي نظر أو تفكر. ويزعم أن إسلام عامة قبيلة الأوس كان متابعة وتقليداً لأميرها.
وفي هذه الحلقة سنناقش، إن شاء الله، فكرة أخطر على العقيدة من سابقتها، أوردها المؤلف في أماكن عدة من كتابه، بل هي الغرض من تأليفه لهذا الكتاب.
خلاصة هذه الفكرة هي أن المؤلف يقول بأن أركان الإيمان يكفي فيها غلبة الظن، أي الترجيح، ولا يجب فيها الجزم والقطع. وهو يفسر الترجيح بأنه هو العلم واليقين، ويفسر الإيمان بأنه غلبة ظن وليس الجزم والاطمئنان، بحسب فهمه للآية الكريمة: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). وما دام الإيمان يزيد وينقص فهو مجرد غلبة الظن، ولذلك أجاز الإيمان بالتقليد الأعمى دون أدنى نظر، حتى لو كان هذا التقليد للسادة والأمراء وليس للعلماء، وأجاز بناء أركان العقيدة على خبر الواحد.
الظن:
وننتقل الآن إلى شيء من التفصيل وكيف جعل الترجيح علماً ويقيناً. يقول في ص18: (قلت: فإذا كان الظن مرجوحاً كان وهماً وتخريصاً وتخميناً، وإن كان راجحاً كان علماً ويقيناً). ويقول ص19: (وعُلِمَ من ذلك أن الظن الممدوح في الآيات الأخرى هو الظن الراجح الذي يفيد العلم واليقين). ويقول ص20: (ولما كانت الأمارة هي التي تحدد معنى كلمة الظن فإن كان الاحتمال مرجوحاً كان وهماً وتخيلاً، وإن كان راجحاً كان علماً ويقيناً). ويقول أيضاً ص20: (وإنما يفيد «الظن» تساوي الاحتمالين، فإذا كانت دلائل الحق أكثر أفادت العلم واليقين، وإن كانت أقل أفادت الوهم والتخمين).
من هذه العبارات نفهم أن المؤلف يصنف الظن صنفين لا ثالث لهما: صنف تكون دلائل الحق فيه أكثر فهو العلم واليقين، وصنف يتكون دلائل الحق فيه أقل فهو الوهم والتخريص.
أي أن ما كانت دلائل الحق فيه تشكل 51% فهو في نظره علم ويقين، أي أن الذي يكون في قلبه 51% تصديق بوجود الله ويكون في قلبه 49% تكذيب لوجود الله فهو في نظر المؤلف مؤمن وإيمانه عن علم ويقين. وكذلك من كان في قلبه تصديق 51% برسالة محمد r وتكذيب 49% فهو في نظر المؤلف مؤمن عالم متيقن ولو كان في قلبه 49% رفض وتكذيب لهذه الرسالة!
هذا ما يؤدي إليه كلام المؤلف. فهل يدري فضيلته ما يقول، وهل يصرّ بعد أن يقرأ هذا الكلام على ما يقول، أو يعود إلى الحق؟
كلمة (الظن) وردت في القرآن بمعنى العلم واليقين كما في قوله تعالى: (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِي * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) وهذا النوع من الظن محمود دائماً.
ووردت في القرآن بمعنى الوهم والتحريض كما في قوله تعالى: (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ) وقوله تعالى: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا). وهذا النوع من الظن مذموم دائماً.
ووردت في القرآن بمعنى الرأي المبني على دليل ولكنه ليس قاطعاً. أي ليس وهماً وتخريصاً وليس علماً ويقيناً. وهذا النوع من الظن لم يعترف المؤلف بوجوده. وردت كلمة الظن بهذا المعنى في قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).
وسننقل أولاً ما أورده ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآيات، قال: (وكان من خبر اليهود… سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان… وانهوا إليه أن في بيت المقدس رجلاً يفتن الناس ويضلهم يفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس. فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام وهو في جماعة من أصحابه: اثني عشر أو ثلاثة عشر وقيل سبعة عشر نفراً، وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت فحصروه هنالك. فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم قال لأصحابه: أيكم يُلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم، فكأنه استصغره عن ذلك فأعادها ثانية وثالثة وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال: أنت هو ألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو. وفتحت روزنة من سقف البيت وأخذت عيسى عليه السلام سِنَةٌ من النوم فرفع إلى السماء وهو كذلك، كما قال الله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) الآية. فلما رُفع خرج أولئك النفر، فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك، وسَلّمَ لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه. وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح بن مريم حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت) انتهى كلام ابن كثير.
إن الذين قالوا في حينها: (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) لم يكون قولهم مجرد وهم وتخريص بل كان لديهم دليل حسي، وهو هذا الرجل الذي اعتقلوه وصلبوه، وهو كان يشبه عيسى كما قال تعالى: (وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ). ومع كونهم يملكون دليلاً حسياً على قولهم فإنه لم يكن يقينياً قاطعاً لأن بعضهم قال: الوجه وجه عيسى والبدن ليس بدنه. ولأن الحواريين أخبروا الناس أنه لم يصلب ولم يقتل. ولكن الناس لم يصدقوهم.
لقد كان رأيهم راجحاً لديهم أنهم قتلوه وكانوا يملكون دليل الترجيح بشكل قوي، ومع ذلك فإن الله سبحانه لم يعتبر رأيهم علماً ولم يعتبره يقيناً، بل اعتبر ذلك اتباع الظن، واعتبرهم في شك منه.
هذه الآية الكريمة التي جمعت في وقت واحد ألفاظ: (الشك) و(اليقين) و(الظن) و(العلم) هي محور البحث لأنها تبين بشكل واضح أن الظن وإن كان راجحاً، وإن كانت دلائل الحق فيه أكثر من دلائل البطلان فإنه يُسمى علماً ولا يُسمى يقيناً، كما قال المؤلف. وهي تبين أيضاً بشكل واضح أن هذا الظن الراجح المبني على دليل (وليس على وهم) ليس كافياً عند الله لإقامة العقيدة عليه، لأنه دخله عامل من عوامل الشك ولو بسيط.
إن الآية الكريمة وصفتهم بأنهم اختلفوا في موضوع قتل عيسى، ووصفتهم بأنهم في شك منه، ووصفتهم بأنهم تابعون للظن، وقد رأينا أنه ظن راجح قائم على دليل. وصار بعضهم يروي الحكاية لبعض رواية مشاهدة، ويرويها الثقات ويتناقلونها، فهي في مرتبة خبر الآحاد المشهور، ولم نقل أنها في مرتبة المتواتر لأنه وُجد من شكك فيها بناء على أمور تولد الشك. أما إذا أرادت كثرتهم (ما عدا الحواريين الذين شاهدوا المعجزة) أن توازن بين دلائل الإثبات ودلائل النفي فإنهم سيجدون أن دلائل الإثبات أكثر بكثير.
هذا الظن منهم وهذا الترجيح وإن كان قوياً ومبنياً على دليل ومع ذلك لم تقبله الآية الكريمة بل رفضته. ونحن نلاحظ أن موضوعه هو موضوع عقيدة وليس موضوع حكم شرعي عملي.
من جهة أخرى فقد وجدنا الآيات والأحاديث توجب العمل بالحكم الشرعي إذا كان راجحاً مجرد ترجيح، ولم تحتم القطع والجزم كما حتمته في مسألة الاعتقاد.
والظن من حيث الواقع ليس مرتبتين فقط: وَهْمٌ ويقين، كما توهم المؤلف. وليس ثلاث مراتب فقط: وَهْمٌ وترجيح ويقين كما ظن بعضهم. ولكن الظن له مراتب كثيرة أدناها الوهم غير المبني على أي دليل، وأعلاها اليقين مروراً بالظن الذي له دليل ولكنه ضعيف، والظن الذي له دليل قوي ولكنه لا يصل إلى اليقين، والظن الذي يكون وسطاً بين النفي والإثبات. والناس بطبعهم يجعلون للظن مراتب عدة، فمثلاً المدرس الذي يدرس تلاميذه ويرسلهم إلى الامتحان يضع احتمالاً مقداره 90% لنجاح بعضهم، ويضع احتمالاً مقداره 70% لنجاح آخرين، و60% لنجاح غيرهم و50% أو 30% أو 10% الخ. وهذا الظن مبني على دليل وهو خبرة هذا المدرس ومعرفته بتلاميذه وقدراتهم.
وليس كل ظن مرجوح وهماً وتخريصاً. وها هي المسائل الخلافية بين المجتهدين. فالشافعي رضي الله عنه رجح عنده أن لمس المرأة باليد ينقض الوضوء، ورجح عند أن سيلان الدم من الجرح لا ينقض الوضوء بناء على فهمه للأدلة. وأبو حنيفة رضي الله عنه رجح عنده أن لمس المرأة باليد لا ينقض الوضوء، ورجح عنده أن سيلان الدم من الجرح ينقض الوضوء بناء على فهمه للأدلة. فيكون قول الشافعي مرجوحاً في نظر أبي حنيفة، ويكون قول أبو حنيفة مرجوحاً في نظر الشافعي، فهل يتهم الشافعي أبا حنيفة في مثل هذه الحالة بأنه يقول وهماً وتخريصاً، وهل السادة الأحناف يتهمون الشافعي في مثل هذه الحالة بأنه يقول وهماً وتخريصاً؟ كلا، لأن لكل واحد منهم دليله، ودليله قوي في نظر نفسه وإن كان ضعيفاً في نظر الآخر.
أما إذا قام من يدعي أن الربا ليس حراماً في هذه الأيام، فنحن لا نحترم قوله ولا نقول بأن له دليلاً قوياً في نظره وضعيفاً في نظرنا. بل نقول بأنه ليس له دليل مطلقاً، بل هو يخالف الأدلة.
فالظن الضعيف يشكل مبرراً لصحابه، ما دام هذا الظن مبنياً على دليل، ولا يجوز لنا أن نتهمه بأن قوله عارٍ عن الدليل وبأنه مجرد وهم وتخريص.
الإيمان والاطمئنان:
أما الاستدلال على أن الإيمان لا يتطلب اليقين والاطمئنان بقوله تعالى: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فهذا الاستدلال في غير محله. والآية الكريمة هي في شأن إبراهيم عليه السلام: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). فهل يخطر في بال مسلم أن رسول الله إبراهيم عليه السلام لم يكن مقتنعاً مائة بالمائة أن الله قادر على إحياء الموتى؟ وهل كان في قلب إبراهيم أي شك في ذلك؟ معاذ الله. وهذا هو حديث رسول الله r الذي رواه البخاري ومسلم: قال رسول الله r: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)» وهذا الحديث فيه نفي للشك عن إبراهيم وعن محمد عليهما الصلاة والسلام، ومعناه: إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء المؤتى فإبراهيم أولى بأن لا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع r.
والسؤال في الآية ليس عن القدرة على الإحياء لأن هذه قلبه مطمئن تجاهها كل الاطمئنان، ولكن السؤال هو عن كيفية الإحياء، فهو يجهل الكيفية وتقوم التساؤلات في نفسه عنها، وما دامت التساؤلات تتوارد عليه فإن قلبه يكون غير مطمئن من هذه الجهة. فاستجاب الله له وأراه كيفية الإحياء. وهذه مسألة أخرى غير الإيمان، بدليل أنه قال: بلى، حينما سئل عن الإيمان. وبدليل أن الله سبحانه اشترط في الرخصة لمن يكفر مكرهاً أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ) الآية فإذا كان الله سبحانه يوجب اطمئنان القلب بالإيمان على من كان في حالة الشدة والإكراه فمن باب أولى أن يكون قلب المؤمن مطمئناً بالإيمان في حالة الرخاء. وهذا يدل بشكل حتمي أن طمأنينة القلب بالإيمان هي شرط لصحة هذا الإيمان ولكونه مقبولاً عند الله. هذا بالنسبة لإيمان أي شخص. فهل بعد هذا يقال إن إبراهيم عليه السلام لم يكن قلبه مطمئناً بالإيمان.
الاطمئنان يمكن أن يجافي قلب المؤمن في مسائل غير الإيمان، كأن يخاف من عدوا أو مصيبة، أو أن يلح عليه حب الاستطلاع، أو غير ذلك. وقد ورد في حق نبينا عليه الصلاة والسلام: (ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
معنى زيادة الإيمان:
يوجد بين العلماء خلاف على تحديد معنى الإيمان، هناك من قال: هو: التصديق، وهناك من قال: هو التصديق الجازم، وهناك من قال: هو تصديق بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح. ويوجد أقوال غير هذه ولكن لا أهمية لها.
في اللغة الإيمان معناه التصديق بالقلب، ولا يشترك فيه لغة أن يكون جازماً، ولا أن يكون مطابقاً للواقع (أي صحيحاً)، ولا يشترط فيه لفظ اللسان ولا العمل بالجوارح.
ولكن البحث هنا هو عن المعنى الشرعي للإيمان، أي المعنى الذي يرضاه الله ورسوله مع المرء كي يكون من المؤمنين الناجين عند الله والفائزين بجنته ورضاه.
الإيمان بالمعنى الشرعي يتحتم في التصديق الجازم ولا يكفي فيه مجرد التصديق العادي المبني على الترجيح كما هو الحال في المعنى اللغوي. وهذه المسألة متفق عليه، نقل هذا الاتفاق النووي ـ رحمه الله ـ في شرح صحيح مسلم ج1/ص149 قال: (اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك ونطق بالشهادتين).
وقد اختلف العلماء في: هل العمل بالجوارح هو جزء من الإيمان وركن من أركانه، أو هو ثمرة من ثمراته؟ فمن قال بأن العمل هو جزء من الإيمان أو ركن فيه، على سبيل الحقيقة وليس المجاز، ترتب عليه قوله تكفير من يتخلف عن العمل. ومن هنا قال الخوارج بتكفير مرتكب المعصية سواء كانت المعصية ترك فرض أو اقتراف محرّم.
أما من قال بأن العمل هو ثمرة من ثمرات الإيمان فإنه لا يكفر مرتكب المعصية. والمسلمون بغالبيتهم لا يقولون بتكفير مرتكب المعصية إلا إذا رافق المعصية اعتقاد، كمن يعتقد إباحة الزنا والربا مثلاً، أو ينكر فرضية الصلاة أو الصوم مثلاً. قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرح صحيح مسلم ج1/ص150: (واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا يكفر أهل الأهواء والبدع وأن من جحد ما يُعْلَمُ من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيعرّف ذلك فإن استمر حكم بكفره، وكذا حكم من استحل الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يُعلم تحريمها ضرورة).
وهؤلاء الذين يقولون بأن العمل ركناً من أركان الإيمان وليس جزءاً منه بل هو ثمرة من ثماره يقولون في بعض الأحيان بأن العمل جزء من الإيمان أو هو شعبة من شُعَبَ الإيمان بناء ما ورد في بعض النصوص مثل قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي صلاتكم التي صليتموها تجاه بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى المسجد الحرام، ومثل قوله r: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى من الطريق» وقوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن». وقد فسّر r لوفد عبد القيس «بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم».
وإذا دققنا نجد أن هذه الأعمال هي في الحقيقة نتيجة للإيمان وثمرة له. وإذا قلنا بأنها جزء من الإيمان يكون قولنا مجازياً، لأنه يمكن مجازاً إطلاق الشيء على ثمرته أو إطلاق الثمرة على أصلها. وسائر العلماء الذين قالوا بأن العمل جزء من الإيمان لم يقولوا بتكفير العاصي، أي أنهم في الحقيقة اعتبروا العمل ثمرة للإيمان وليس جزءاً منه أو ركناً فيه.
ومن هنا فسروا معنى الزيادة والنقصان في الإيمان. أي أن أعمال الطاعات التي هي جزء (على سبيل المجاز) من الإيمان إذا زادت زاد الإيمان وإذا نقصت نقص الإيمان. نقل النووي (ج1/ص146) عن البغوي الشافعي قوله: (الإيمان في اللغة هو التصديق فإن عني بذلك فلا يزيد ولا ينقص لأن التصديق ليس شيئاً يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى، والإيمان في لسان الشرع هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقص وهو مذهب أهل السنة). ونقل النووي أيضاً (ج1/ص146) عن ابن بطال المالكي المغربي قوله: (مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والحجة على زيادته وتقصانه ما أورده البخاري من الآيات، يعني قوله عز وجلّ: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) وقوله تعالى: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) وقوله تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) وقوله تعالى: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) وقوله تعالى: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) وقوله تعالى: (فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) وقوله تعالى: (وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) قال بان بطال: (فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص، فإن قيل: الإيمان في اللغة التصديق، فالجواب أن التصديق يكمل بالطاعات كلها فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل وبهذه الجملة يزيد الإيمان وبنقصانها ينقص، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً. هذا توسط القول في الإيمان. وأما التصديق بالله تعالى ورسوله r فلا ينقص. ولذلك توقف مالك رحمه الله في بعض الروايات عن القول بالنقصان إذ لا يجوز نقصان التصديق لأنه إذا نقص صار شكاً وخرج عن اسم الإيمان) انتهى كلام ابن بطال.
إذاً فإن معنى زيادة الإيمان هو زيادة الطاعات التي هي ثمرة الإيمان. أما التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وسائر أسس الإيمان فلا بد أن يكون تاماً جازماً يقينياً لأنه إذا نقص صار شكاً وخرج عن اسم الإيمان الشرعي، كما نقله ابن بطال عن مالك رضي الله عنه.
وقال النووي (ج1/ص148): (قال: المحققون من أصحابنا ـ أي الشافعية ـ المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها. قالوا: وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف وبين اصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون).
ولكن تبقى هناك مسألة: إذا كان الإيمان هو التصديق اليقيني الجازم، فهل هذا يعين أن إيمان جميع الناس المؤمنين بمن فيهم النبيون والصديقون هو بمرتبة واحدة؟ كلا، ليس يقين الناس في مرتبة واحدة. فيقين الأنبياء ليس في مستوى يقين العامة، ويقين الذين نظروا وتفكروا في خلق السموات والأرض وتوصلوا إلى الإيمان عن طريق الفكر المستنير ليس في مستوى يقين الذين نظروا دون تعمق وتبصر، ويقين هؤلاء ليس كيقين الذي يقلد تقليداً أعمى.
ومن هنا جاءت الشبهة عند بعضهم، فَهُمْ حين رأوا أن إيمان المؤمنين ويقينهم يتفاوت، ظنوا أن كل يقين يقل عن يقين الأنبياء هو إيمان ناقص، أي هو مجرد ترجيح، وظنوا أن الإيمان المبني على الترجيح مقبول عند الله. وهذا خطأ. فكل مؤمن لا بد أن يكون إيمانه جازماً في نفسه، لكن قوة الجزم هذه أي قوة اليقين تتفاوت بين المؤمنين.
حتى أن الشخص نفسه يكون جازماً في أمر ثم تستبين له أمور جديدة فيزداد جزماً وقوة ويقين. فالمسلم يؤمن أن الشريعة الإسلامية هي أحس الشرائع وإيمانه في ذلك جازم، فإذا قام الآن كبار المشرعين في البلاد الرأسمالية والاشتراكية وأقروا بأن الشريعة الإسلامية هي أحسن الشرائع، فلا شك أن هذا سيزيد في جزم المسلمين ويقينهم بشريعتهم.
نخلص من هذا البحث إلى أن الإيمان بالمعنى الشرعي هو العقيدة وهو التصديق الجازم. ولا يقبل الله سبحانه الإيمان إذا كان فيه ريب أو تردد أو حيرة. ولا يقبل الله الإيمان إذا كان مبنياً على مجرد الترجيح. وقد دلتنا الآية الكريمة: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) دلّتنا على أن اتباع الظن وإن كان راجحاً لا يكفي في العقائد، وإن كان يكفي الظن الراجح في الأحكام العملية أو الأفكار الفرعية الملحقة بالعقائد.
(يتبع).
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)
عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي r أن رسول الله r سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: «إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها».
1989-05-06