تقرير: الجنرال غورو وتكبير لبنان 1920م
1989/02/05م
المقالات
3,820 زيارة
كانت مهمة الجنرال غورو تتحدد وفق «تمنيات أهل الصناعة والتجارة في ليون» في السيطرة الكاملة على سورية، ومنع أي تدبير من شأنه عرقلة المشاريع الاقتصادية الكثيرة التي ابتدأت تتهيأ لها الشركات الفرنسية. (لسان الحال 23/10/1919).
حين فصل غورو لبنان عن بلاد الشام سنة 1920 وحوله من جبل لبنان إلى لبنان الكبير، بضم بعض الأقضية إليه، لم يكن يفعل ذلك من أجل مصلحة الموارنة بل من أجل مصلحة النفوذ الفرنسي.
يومها فرح أكثر الموارنة وتخوفت قلة منهم من عواقب التكبير.
اليوم (وكما كتب سركيس نعوم في جريدة النهار 31/01/1989) أكثرية الموارنة منزعجون من عمل الجنرال غورو.
يومها كانت فرنسا تزحف من لبنان إلى بلاد الشام، أما اليوم فإن بلاد الشام تعود لتحتضن لبنان.
وها نحن نضع بين يدي القراء صفحات من كتاب: (الاتجاهات الاجتماعية والسياسية في جبل لبنان والمشرق العربي 1860 ـ 1920) معهد الإنماء العربي.
إن وصول الجنرال غورو إلى بيروت في (18 تشرين الثاني 1919) على رأس (30000) جندي زاد من حدة التناقضات بين المواقف الداخلية. فقد أثار وصوله فرح وابتهاج المطالبين بدولة لبنانية أو سورية محمية من فرنسا، وقلق واضطراب التيار القومي «العروبي» المطالب باستقلال سورية.
بالنسبة للموقف الأول عبر عن نفسه بتنظيم المظاهرات المؤيدة لفرنسا في العديد من المناطق التي تتواجد فيها عناصر كاثوليكية ومارونية. بينما تميزت ردة فعل الموقف الآخر بالاحتجاج والسخط والدعوة لمقاومة الاحتلال الأجنبي. كتبت «المفيد» الصحفية «البيروتية» ناقلة صدى هذا الموقف: «إن وصول الجنرال غورو على رأس (30 ألف جندي) يظهر لنا بما فيه الكفاية سوء نوايا الدول الكبرى. إن واجبنا يدعونا لطرد الأجنبي بالقوة».
كانت مهمة الجنرال غورو تتحد وفق «تمنيات أهل الصناعة والتجارة في ليون» في السيطرة الكاملة على سورية، ومنع أي تدبير من شأنه عرقلة المشاريع الاقتصادية الكثيرة التي ابتدأت تتهيأ لها الشركات الفرنسية. يعني ذلك الإسراع في القضاء على «التيار القومي» الذي نبه بول هوفلين إلى خطره، وسحق مشروع حكومة دمشق في المهد. لم تكن المسألة تنحصر إذن في تطبيق اتفاقية سايكس ـ بيكو فحسب، بل إن ثمن فلسطين والموصل عند بريطانيا كان يقابل داخلية سورية عند فرنسا وهي حقيقة تم إخراجها عبر صيغة «استبدال القوات الإنجليزية بالقوات الفرنسية».
كيف تحددت شتى مواقف الأطراف حينها؟ موقف فيصل الذي توجه نحو أوروبا آنذاك للتباحث في هذا الشأن مع كليمنصو؟ المؤتمر السوري والحركة الشعبية لا سيما في المناطق التي ستحلق بلبنان؟ الحكومة الفرنسية وأصدقاؤها في الداخل؟
بالنسبة لفيصل، تميز موقفه كما هو الحال بالنسبة للمرحلة الأولى من مباحثاته بالتردد والتراجع والضياع في شباك السياسات الإمبريالية. فقد روت أخبار نقلتها يومذاك صحيفة «لسان الحال» «أن الأمير فيصل اقترح تشكيل لجنة حربية تتألف منه، ومن نائب إنجليزي، ونائب فرنسي، ونائب أميركي، على أن تجتمع اللجنة في لندرا لتدارس الاحتياطات التي يجب أن اتخاذها في القريب العاجل، نظراً للنتائج التي ربما تقع على أثر انسحاب الجيوش الإنجليزية من سورية». وجاء تردده واضحاً في تصريحه التالي: «أن العرب كان لك اعتمادهم على إنكلترا، فانسحاب (100) ألف جندي إنجليزي مما يجعل الحالة موجبة للاهتمام، إلا إذا أيقن السكان بأن استبدال الجيوش المذكورة بالجيوش الفرنسية لا يؤول إلى اقتسام البلاد، ولا إلى تقرير المصير النهائي». وأضاف: «أن بريطانيا العظمى قبلت مبدئياً هذا الاقتراح، وأنه سيقدم إلى باريس بدعوة من المسيو كليمنصو للمباحثة في هذه المسألة».
وكان أن أسفرت مباحثاته مع كليمنصو أخيراً عن «اتفاق سري» جرى بتاريخ (6 كانون الثاني 1920) جاء فيه:
1- «تعد الحكومة الفرنسية بتقديم المساعدة للشعب السوري وبضمان استقلاله».
2- «يطلب الأمير فيصل من الحكومة الفرنسية وحدها دون غيرها تعيين مستشارين ومعلمين وتقنيين لتنظيم جميع الإدارات المدنية والعسكرية، ولتولي بعض الدوائر في هذه الإدارات مثل المالية والأشغال والعامة».
3- «يكون للأمير فيصل في باريس ممثل مفوض يعمل تحت إمرته، وممثل في لندن وروما وواشنطن ضمن إطار السفارة الفرنسية في هذه العواصم. أما في غيرها من البلدان فإن القناصل الفرنسيين سيرعون مصالح السوريين».
4- «يعترف الأمير باستقلال لبنان تحت الانتداب الفرنسي».
5- «يسهل الأمير تشكيل إدارة مستقلة لدروز حوران داخل الدولة السورية».
6- «تقدم سورية إلى فرنسا كل عون عسكري في جميع الحالات».
7- «يعترف باللغة العربية لغة رسمية في الإدارة والمدارس. تدرس اللغة الفرنسية كلغة ثانية».
8- «تكون دمشق عاصمة سورية، ويقيم المفوض الفرنسي السامي في حلب».
على أن هذا الاتفاق لم يرض لا الآمال الاستعمارية الفرنسية المعلقة على الجنرال غورو ومهمته، ولا الطموحات القومية العربية التي كانت قد بدأت بالتعبير عن نفسها بعنف في عدد من المناطق السورية، وبشكل خاص في تلك المناطق المحتلة من قبل الجيش الفرنسي، واشتدت وطأة المعارضة الفرنسية، فاضطر كليمنصو أن يستقيل في (17 كانون الثاني 1920)، وانتخب بدلاً منه ميلليران.
هذا، وكانت قرارات مؤتمر سان ريمو (25 نيسان) بوضعها سورية نهائياً تحت الانتداب الفرنسي قد أعطت الضوء الأخضر الكبير للجنرال غورو أن يتابع مشروع تصفيته للحركة العربية تحت ستار دولي ومباركة إنجليزية. في ذات الوقت أرسلت الحكومة الفرنسية إلى غورو فرقاً عسكرية سنغالية لاستعجال حسم مسألة الكيان العربي في دمشق.
عاد فيصل وكان الموقف الداخلي قد تخطى كل محادثاته في أوروبا، وكانت أخبار اتفاقه مع كليمنصو قد تسربت من الصحف الأجنبية إلى الصحف المحلية، فكتبت لسان الحال في (13 كانون الأول 1919): «أن الأمير فيصل وقع اتفاقاً يقضي بأن تحتل الجنود الفرنسية المنطقة المخصصة بالإدارة الفرنسوية مباشرة بدلاً من جنود الشريف، وبأن يستعين بخدمة ذوي الخبرة من الفرنسيين للحصول على المساعدة الفنية اللازمة في المنطقة الواقعة تحت نفوذ فرنسا والمذكورة في معاهدة (1916)».
لذلك كانت النقمة على أشدها تجاه فيصل. ولم يستطع هذه الأخير إلا أن ينصاع للتيار القومي السائد، فلم يشر في خطابه أمام لجنة الدفاع ولا بكلمة عن هذا الاتفاق، بل أكد على صعوبة الموقف بعد انسحاب الولايات المتحدة من المؤتمر، وكرر التأكيد على الاستقلال ورفض الوصاية.
كان الوضع الداخلي إذن يتجه بقوى الحركة القومية نحو اتخاذ مبادرة تستبق «المحادثات» وقرارات «الدول الكبرى» وخطوات غورو اللاحقة. تمثلت المبادرة في قرار المؤتمر السوري الذي انعقد في (8 آذار 1920) وضم ممثلين عن جبل لبنان والمناطق التي ستحلق به.
وأعلن القرار استقلال البلاد السورية بحدودها الطبيعية ومنها فلسطين، استقلالاً تاماً لا شائبة فيه، على الأساس المدني النيابي، وحفظ حقوق الأقلية، ورفض مزاعم الصهيونيين في جعل فلسطين وطناً قومياً لليهود أو محل هجرة لهم ـ اختيار الأمير فيصل ملكاً دستورياً على سورية وإعلان انتهاء الحكومات الاحتلالية العسكرية الحاضرة في المناطق الثلاث… ـ إدارة مقاطعات هذه البلاد على طريقة اللامركزية الإدارية، وعلى أن تراعي أماني اللبناني الوطنية في كيفية إدارة مقاطعتهم لبنان ضمن حدوده المعروفة قبل الحرب العامة، بشرط أن يكون بمعزل عن كل تأثير أجنبي… ـ المطالبة باستقلال القطر العراقي استقلالاً تاماً على أن يكون بين القطرين الشقيقين اتحاد سياسي ـ اقتصادي».
ماذا كانت الردود في جبل لبنان وفي الوسط الكاثوليكي والماروني بالذات؟
منذ التغيير الذي حصل في الحكومة الفرنسية وتسلم ميلليران الرئاسة، وفي مجرى الانتفاضات المسلحة التي قامت هنا وهناك وطالت بردود فعلها الفئات الأقلية الموالية لفرنسا كانت مواقف المنادين «بتكبير لبنان» في ظل الحماية الفرنسية، قلقة وغير واثقة من المصير. لذا قامت فكرة إرسال وفد ثالث إلى باريس يؤكد على مطالب الوفدين السابقين.
في (2 شباط 1920) توجه نحو باريس وفد لبناني مؤلف من المطران عبد الله الخوري النائب البطريركي، وتوفيق أرسلان، وأميل اده، ويوسف الجميل، ليقوم بهذه المهمة.
وتظهر «لسان الحال» قلقها على «المصير» فتدعو حيال الاستعدادات القائمة لعقد المؤتمر السوري وانتخاب فيصل ملكاً، إلى ملاحقة الوفد اللبناني في باريس وحثه، مؤكدة على حراجة الموقف وصعوبته ومذكرة «بالمخاطرة» المحيقة «يقولون لا أمل في لبنان الكبير، ولا أمل في البقاع إلا بقاع العزيز، ولا أمل بالحصول على مرفأ لا بيروت ولا طرابلس ولا صيدا، إلا جونية والدامور، فإذا كان هذا القول صحيحاً فيكيف يعيش لبنان…؟».
وبعد انعقاد المؤتمر السوري في (8 آذار) وإعلان الاستقلال الرسمي للملكة العربية الجديدة، توالت ردود الفعل السريعة من جهة بعض أعضاء مجلس الإدارة والكنيسة المارونية والسلطة الفرنسية. فصدر عن مجلس الإدارة بيان يتضمن بنوداً خمسة.
1- الاحتجاج على مناداة فيصل ملكاً على سوريا.
2- الاحتجاج على اللبنانيين الموجودين في الشام (الوفد إلى المؤتمر السوري).
3- إعلان استقلال لبنان الكبير بمساعدة فرنسا.
4- تأليف لجنة للبحث في درس القانون الأساسي لحكومة لبنان الكبير.
5- البحث في كيفية نشر العلم اللبناني وكيفية شكله.
وفي (22 آذار) نظم مهرجان خطابي في بعبدا ضم وفوداً شعبية مارونية تحمل علماً مثلث الألوان (العلم الفرنسي تتوسطه أرزه)، كان قد أقر «علماً رسمياً) للبنان ـ الكبير، وعزم على رفعه فوق ساري بعبدا.
ألقى حبيب باشا السعد كلمة استعاد فيها الإصرار على استقلال لبنان، ورفض اتباعه لسورية، وأكد على الاحتجاجات السابقة. وكانت السلطة الفرنسية قد تمثلت «بالكومندان لابري» الذي «طمئن الحاضرين وقرأ عليهم نبأ برقياً وارداً من ميلليران يسكن به خواطر اللبنانيين. ويؤكد أن الحركة الداخلية لا تؤثر بشيء على مساعي الوفد اللبناني في باريس، وأنه يؤيد ما كان المسيو كليمنصو وعد به اللبنانيين بواسطة وفدهم البطريركي».
هذا، وكان الوضع العسكري في البلاد يزداد توتراً بازدياد نشوء مظاهر حرب العصابات في «المنطقة الغربية». مما حدا بالجنرال غورو إلى التفكير بإنشاء «ميليشا سورية» محلية تتألف من المتطوعين بين الأهالي وتشارك في التصدي «لأعمال الشقاوة». من أجل ذلك عن الجنرال غورو قرار في (14 شباط) جاء في حيثياته: «لما كان هناك ضرورة لمنع أعمال الشقاوة التي تنتشر حالياً في بعض نواحي «المنطقة الغربية»، ولما كان مهماً أن تكون البلاد بنفسها مسؤولة عن ذلك عبر شرطتها الخاصة، ولما كان معروفاً أن قوى الشرطة والجندرمة الحالية غير كافية، فإنه بناء على اقتراح المفوضية التي اجتمعت لهذا الشأن في (26 كانون الثاني) و(10 شباط)، يقرر الجنرال غورو… ما يلي:
مادة 1: ينشأ في «المنطقة الغربية» تحت اسم «الميليشيا السورية» فرق عسكرية مختلطة، تتألف من متطوعين فقط.
مادة 2: إن العدد الفعلي لهذه الميليشيا يتحدد في كل سنجق كما يلي:
سنجق اللاذقية 550 عنصراً.
سنجق طرابلس 550 عنصراً.
سنجق صيدا 200 عنصر.
هذا القرار كان يعني عملياً تنظيم العناصر المارونية والمسيحية الموالية لفرنسا «رسمياً»، ودفعها لمواجهة الحركة المعادية للاحتلال الفرنسي، والتي تتميز بقاعدة جماهيرية إسلامية واضحة. وهناك أمثلة عديدة تذكر في هذا الصدد من قرى جبل عامل وضواحي صيدا يشير إليها بعض المؤلفين المعاصرين للأحداث.
هذا الموقف سوف يكفي لإعطاء النضال المعادي لفرنسا صبغة «صليبية» ووجهة طائفية محلية. وكان جبل عامل المنطقة الرئيسية التي اتخذ فيها النضال ضد الاحتلال الفرنسي شكل صراع محلي بين الشيعة وبعض سكان القرى المسيحية. فقد تطوع عدد من أبناء هذه القرى في الميليشيا «المختلطة»، واستحصل عدد آخر على أسلحة فرنسية بحجة «حماية» قراهم، وقاموا باستفزاز أهل المنطقة.
في هذا الوقت كانت الأعمال العسكرية في جبل عامل قد اتخذت إلى حد ما أشكال «عصابات» منظمة، وبرزت قيادات محلية كأدهم خنجر في منطقة الشقيف، وصادق حمزة في منطقة بنت جبيل، وتعرضت بعض القرى المسيحية: الجديدة (معرجعيون)، ودير ميماس، وعين ابل، إلى أعمال انتقامية، كما تعرض تنقل القوات الفرنسية إلى كمائن ناجحة في عدة أماكن.
إن الأحداث التي عصفت بجبل عامل خلال شهر أيار، وأوائل حزيران، والتي اتخذت بشكل أساسي طابع التصدي «لأنصار فرنسا» المحليين شكلت ذريعة في يد السلطة الفرنسية لتجريد حملة عسكرية على جبل عامل، لتصفية الثوار وضرب الانتفاضة في مهدها. وبحجة «وضع حد للفوضى» في البلاد و«حماية المسيحيين». قام الكولونيل نيجر على رأس (4000) جندي فرنسي يعاونهم، أدلاّء ومتطوعون، «الأنصار» المحليون، بحملة «طافت جميع قرى الشيعيين»، فاحتلتها وأحرقت بيوت بعضها، واعتقلت المئات من «المتهمين» بمساندة الثوار. كتبت «لسان الحال» مدافعة عن هذه التدابير: «على أنه خلافاً للنمائم التي اشتهرت، لم يحرق غير قسم من قرية بنت جبيل، وهو القسم الذي أعد سكانه المذبحة (يقصد مذبحة عين أبل)، وأما في بقية القرى فلم تحرق غير بيوت زعماء العصابات وقد قتل في المعركة عدد كبير من اللصوص، واعدم الذين قبض عليهم والسلاح في أيديهم رمياً بالرصاص.
واعتبرت السلطة الفرنسية أن «الطائفة الشيعية بجملتها» مسؤولة عما جرى، ففرضت عليها غرامة قدرها 100 ألف جنيه)، وأجبرت أعيانها وزعماءها أن يوقعوا في اجتماع مذل في صيدا تعهداً يقضي «بتحمل أثقال التعويضات عن الخسائر» التي سببتها الأحداث. وحكمت على العديد من الثوار والزعماء بالنفي والإعدام ومصادرة الأملاك.
بيد أن بعد حملة نيجر كان يتضح للسلطة الفرنسية أن تصفية جيوب الثورة في «المنطقة الغربية» نهائياً لا يمكن أن يتم إلا عبر تصفية النواة التي نشأت في دمشق، والتي التفت حولها بقية التحركات في المناطق الأخرى.
في هذا الوقت كانت حكومة دمشق الجديدة تحاول أن تعطي لاستقلالها السياسي المعلن بعض الركائز الاقتصادية، فأسست جمارك داخلية على الحدود، واستوفت زيادة على الرسوم (12%)، كما وضعت نقداً سورياً خاصاً بالبلاد.
وكان هذا من شأنه أيضاً أن يجعل من موضوع تصفية هذا الكيان العربي في دمشق أمراً ملحاً وعاجلاً، لا سيما بالنسبة لمطالب تجار وصناعيي ليون.
لكن ما كان يزعج غورو هو امتداد الثورة التركية إلى كيليكيا نفسها. إذ اشتعلت الجبهة في كانون الثاني (1920)، من مرسين إلى أورفه على امتداد (400) كلم. وكان هذا من شأنه أن يهدد النفوذ الفرنسي لا في كيليكيا فحسب، بل في سورية أيضاً. لا سيما بعد أن ترددت أخبار محاولات تجري لتشكيل جبهة تركية ـ عربية مشتركة ضد الاحتلال الفرنسي. هذا ما دفع الجنرال غورو لعقد هدنة مع أتاتورك، كي يتفرغ كلياً بعدها لتصفية كيان دمشق والمقاومة العربية وفرض برنامج تجار وصناعيي مدينة ليون على الحكومة العربية.
في أوائل تموز كانت الحكومة الفرنسية قد قررت السير نحو دمشق لحسم الموقف، فمنع الجنرال غورو فيصلاً من السفر إلى أوروبا في (5 تموز). وطلب منه قبول المطالب التالي:- أن تضع الفرق الفرنسية يدها على خط سكة الحديد ريقا ـ حلب. ـ الاعتراف بالانتداب الفرنسي على سورية. ـ إلغاء الخدمة العسكرية وتسريح الجيش. ـ إيقاف ومعاقبة من يشترك في الحملة الإعلامية المعادية لفرنسا.
في (12 تموز) وقبل تلقي الرد من فيصل أمر غورو باحتلال المعلقة ورياق لاجتياح البقاع على طريق دمشق. في (14 تموز) وجه غورو إلى حكومة فيصل إنذاراً يتضمن الشروط السابقة مع طلب بقبولها كلياً أو رفضها كلياً قبل منتصف ليل (18 تموز)، وهو موعد مدده غورو (48) ساعة.
قبل فيصل الشروط وأعلن استعداده هو وبعض أعضاء حكومته الدخول في مفاوضات مع الجنرال الفرنسي. في هذا الوقت كانت المظاهرات الشعبية في دمشق ترد بعنف على هذا الاستسلام، وتتهم فيصل وحكومته بالخيانة، وتطالب بتوزيع السلاح على الشعب، وتنظيم المقاومة، وتهاجم مستودعات الأسلحة حيث أطلق عليها النار.
على كل حال لم يكن غورو ليريد أن يدخل دمشق بدون ضجة، ولا فرض شروطه «سلمياً» بعد أن تلقى سيلاً من الانتقادات على الهدنة التركية بشأن كيليكيا. كان يرد أن يغطي هذه الهدنة التي اعتبرت «تراجعاً» و«هزيمة» «بانتصار عسكري» وضجيج إعلامي يرافق دخوله إلى دمشق.
في الساعات الأخيرة بذلت محاولات عديدة ودون جدوى، لحمل غورو على إيقاف زحفه. في هذه الساعات التي يصفها ساطع الحصري بدقة متناهية. كان وزير الحربية يوسف العظمة يقرر المقاومة، فيجمع بعض المتطوعين المدنيين، وما تبقى من الجيش بعد تسريحه، ويتمركز في وجه الجيش الفرنسي الزاحف عند ميسلون. كان هؤلاء يعلمون أن ذخائرهم لن تسمح لهم بالصمود في المعركة أكثر من ساعة ضد الآلة العسكرية الكبيرة التي كان يملكها الجيش الفرنسي، ولكنهم كانوا مع ذلك مصممين على القتال وعلى «الموت بشرف».
في (24 تموز) كانت المجابهة غير المتكافئة. فقضي على المقاومة واستشهد يوسف العظمة، كما استشهد معظم ضباطه وجنوده. في اليوم الذي تلاه دخل الجيش الفرنسي دمشق، وسار فيصل مع عدد من مساعديه طريق المنفى، ليصار إلى تتوجيه من قبل الإنجليز ملكاً على العراق في (23 آب 1921).
1989-02-05