فكر إسلامي خطوط عريضة عن غرائز الإنسان وحاجاته العضوية
1989/01/05م
المقالات
5,953 زيارة
بقلم: محمد أبو وائل
حين ننظر إلى الإنسان نجد أن فيه جوعات فطرية كثيرة ومتشابكة تتطلب الإشباع، فنجد فيه الميل الجنسي ونجد فيه حب الظهور ونجد فيه الجوع والعطش والحاجة إلى النوم ونجد فيه الخوف والشجاعة والحب والحنان والبخل والاحترام والعبادة والتكبر والتجمع… وغير ذلك من الانفعالات والجوعات، ونجد أن أعمال الإنسان كلها إنما هي لإشباع هذه الجوعات، فما هي هذه الجوعات؟.
إن المشاهد بالحس من تتبع أفعال الإنسان أن هذا الإنسان فيه طاقة حيوية لها مظهران: أحدهما يتطلب الإشباع الحتمي بحيث إذا لم يشبع يموت الإنسان، وهذا يتمثل في الحاجات العضوية كالجوع والعطش وقضاء الحاجة والحاجة إلى النوم والتنفس…
والثاني يتطلب الإشباع ولكن بشكل غير حتمي، فإذا لم يشبع يبقى الإنسان حياً ولكنه ينزعج ويقلب، وهذا محصور في الغرائز الثلاث: غريزة البقاء وغريزة النوع وغريزة التدين. فإذا استثنينا ما يتعلق بالحاجات العضوية فإن كل جوعات الإنسان إنما هي مظاهر لغريزة من هذه الغرائز الثلاث: فحب الظهور مثلاً، وحب التملك والتجمع والخوف والشجاعة والتكبر والقومية والوطنية والاستعمار والكرم… كل هذه مظاهر لغريزة واحدة هي غريزة البقاء، فكلها مظاهر لحرص الإنسان على ذاته. وكذلك ميل الرجل إلى المرأة بشهوة، والميل إلى الأم بحنان والميل إلى إنقاذ الغريق والميل إلى إغاثة الملهوف والاشمئزاز من منظر الإنسان المقطوع الرأس ومحبة الأطفال… كلها مظاهر لغريزة النوع لأنها كلها متعلقة بالميل إلى ما يحفظ النوع الإنساني وبالنفور مما يهدده، ولا علاقة بها ببقاء ذات الإنسان، فعاطفة الأمومة قد تجل الأم تضحي ببقائها من أجل أولادها، ليس ذلك لأنهم امتداد لشخصيتها أي امتداد لبقائها، لأنها قد تضحي بنفسها من أجل طفلها الرضيع الذي لم يكتسب شيئاً من شخصيتها فتكون عاطفة الأمومة مظهراً لغريزة أخرى غير غريزة البقاء، وهي غريزة النوع، وهي غريزة مستقلة عن غريزة البقاء ولكل منهما مظاهر متميزة عن مظاهر الغريزة الأخرى. وهناك مظاهر أخرى لا علاقة لها بغريزة النوع ولا بغريزة البقاء، وذلك كالاحترام مثلاً، فعندما تشعر أنك تحترم شخصاً ما فإن هذا الاحترام ليس لأنك تخافه، لأن الخوف مظهره الملق أو الهروب أو الدفاع وهذا يناقض الاحترام، فالشعور بالاحترام لا علاقة له بالحرص على ذات الإنسان ولا باستمرار النوع الإنساني، وإنما هو مظهر لغريزة ثالثة هي غريزة التدين. والتدين غريزة طبيعة ثابتة إذ هو الشعور بالعجز الطبيعي في الإنسان وبحاجته إلى الخالق المدبر بغض النظر عن تفسير هذا الخالق المدبر. وهذا الشعور فطري يكون في الإنسان من حيث هو إنسان ـ مؤمناً كان أو ملحداً ـ والمظهر الذي يظهر به هذا التدين هو التقديس، وهذا التقديس قد يظهر بمظهره الحقيقي فيكون عبادة وقد يظهر بأقل صورة فيكون التعظيم والتبجيل. ولذلك نجد الإنسان متديناً، ومنذ أن أوجده الله على الأرض نجده يعبد معبوداً ما، فقد عبد الله وعبد الشمس والأصنام، ولا نجد شعباً في أي عصر إلا وهو يعبد، حتى الشعوب التي قام فيها السلطان بالقوة يجبرها على ترك التدين كانت متدينة رغم القوة وتحملت كل الأذى في سبيل عبادتها ولن تستطيع قوة أن تنزع من الإنسان التدين، لأن الغريزة لا يمكن محوها وإنما يمكن معالجة مظهر من مظاهرها بمظهر آخر. وعلى ذلك فإن ما يظهر على بعض الملحدين من عدم العبادة أو من الاستهزاء بالعبادة، إنما هو صرف لغريزة التدين عندهم عن عبادة الله إلى احترام وتعظيم المخلوقات، وجعل مظهرها في تقديس الطبيعة أو الأبطال أو الأشياء الضخمة، واستعملت لهذا الصرف المغالطات والتفسيرات الخاطئة للأشياء. ومن هنا كان الإلحاد أصعب من الإيمان لأنه صرف للإنسان عن فطرته فيحتاج ذلك إلى جهد كبير، وما أصعب أن ينصرف الإنسان عن مقتضى طبيعته وفطرته، ولذلك نجد الملحدين، حين ينكشف لهم الحق ويدركون وجود الله بالعقل إدراكاً جازماً، نجدهم يسرعون إلى الإيمان ويشعرون بالراحة والاطمئنان ويزول عنهم كابوس كان يثقلهم ويرميهم في هوة الشقاء.
هذه هي حقيقة الغرائز وحقيقة مظاهرها، فالغريزة ثابتة في الإنسان وهي جزء من تكوينه لا يمكن محوها، فإنها لا بد أن تظهر بأي مظهر من مظاهرها. أما مظاهر الغريزة فيكمن كبتها ويمكن معالجة الأنانية بالإيثار ويمكن معالجة البخل بالكرم. وكذلك غريزة النوع من مظاهرها الميل إلى المرأة بشهوة والميل إلى الأم بحنان، فيمكن معالجة أو تخفيف الميل للمرأة بشهوة بالميل للأم بحنان، وكثيراً ما يكون حنان الأم صارفاً عن الزوجة وحتى عن الزواج.
وتختلف الغرائز عن الحاجات العضوية من ناحيتين:
الأولى: أن الحاجة العضوية تتطلب الإشباع الحتمي وإذا لم تشبع يموت الإنسان بخلاف الغريزة فإنها تتطلب الإشباع فقط، وإذا لم تشبع يقلق ولكنه لا يموت، فالإنسان إذا لم يأكل أو يتنفس يموت، ولكنه لا يموت إذا لم يصلّ أو يتزوج.
الثانية: إن الحاجة العضوية تتحرك للإشباع داخلياً من ذاتها وتثار من الخارج، فالجوع يأتي من الداخل طبيعياً ولا يحتاج وجوده إلى أي مؤثر خارجي، فالإنسان يحس بالجوع ولو لم يخطر الطعام بباله أبداً، صحيح أن منظر الطعام أو الحديث عن الطعام أو تفكيره بالطعام يثير شعوره بالجوع ولكنه ليس من الضروري أن يرى الطعام أو يكفر به حتى يشعر بالجوع، بل قد يشعر بالجوع دون أي مؤثر خارجي. وهذا بخلاف الغريزة فإنها لا تتحرك من ذاتها مطلقاً ولا يحصل الشعور بالحاجة للإشباع إلا بمؤثر خارجي، فغريزة البقاء مثلاً لا تظهر بمظهر الخوف إلا بوجود ما يخيف أو بتخيل الإنسان لما يخيف، وكذلك لا تتحرك الشهوة الجنسية إلا إذا رأى الإنسان واقعاً محسوساً يثير هذا الشعور أو تحدث إنسان أمامه عما يثير هذا الشعور أو تداعت في مخيلته صور تثير هذا الشعور، وما لم يوجد الواقع المحسوس أو الفكر لا يمكن أن يثار هذا الشعور. ولهذا لا يسبب وجود الغريزة من حيث هي في الإنسان قلقاً وإنما إثارة الشعور الذي يتطلب الإشباع هي التي تسبب القلق حين لا يتأتى الإشباع، فإذا لم يوجد شعور الإشباع بعدم وجود ما يثيره لا يوجد أي قلق مطلقاً. ولذلك كان من الحماقة وقصر النظر أن توضع بين الناس المؤلفات الجنسية والروايات الجنسية، وكان من الحماقة وقصر النظر أن يفسح المجال لإيجاد الوقع المحسوس الذي يثير غريزة النوع باختلاط النساء بالرجال أو بخروج النساء متبرجات، لأن هذا يعني إيجاد ما يثير شعور الجنس وإيجاد القلق حتى يشبع هذا الشعور، ثم إيجاد الواقع الذي يثيره مرة أخرى، فيتحرك للإشباع دائماً، فيكون مشغولاً بالعمل لتحقيق هذا الإشباع أو قلقاً حين لا يحقق هذا الإشباع، وهذا هو الانحطاط الفكري والشقاء المضني.
وإشباع الإنسان لهذه الغرائز والحاجات العضوية هو أمر حتمي، وهذا الإشباع لا بد أن يكون خاضعاً لإرادة العقل، وإلا أدى ذلك إلى الإشباع الشاذ في جهة ليست محلاً للإشباع أو إلى الإشباع الخاطئ في جهة هي محل للإشباع ولكن لمجرد الإشباع، وكلاهما يتناقض مع الأصل الذي قامت عليه الغريزة. فمثلاً غريزة التدين إذا أشبعت عن طريق الوجدان فقط أدى ذلك إما إلى الإشباع الشاذ بعبادة غير الخالق أو إلى الإشباع الخاطئ بالتقرب إلى الخالق بما يبعد عنه وكلاهما صرف للغريزة عما وجدت له. وكذلك غريزة النوع إذا تطلبت الإشباع بمظهر الجنس وأشبعت الشهوة الجنسية وجدانياً فقط جرها ذلك إما إلى الإشباع الشاذ في جهة ليست محلاً للإشباع كاللواط أو السحاق أو قضاء الشهوة مع الحيوانات، وإما إلى الإشباع الخاطئ من جهة هي محل للإشباع ولكن لمجرد الإشباع المؤقت أو غير المنظم بنظام صحيح وهذا معناه صرف عن نتيجة الإشباع وهي الولادة، وفي كلا النوعين صرف للغريزة عما وجدت له.
وعلى ذلك لا يجوز أن يترك إشباع الغرائز للوجدان، وذلك أن الوجدان شعور غريزي يظهر بوجود ما يثير المشاعر الغريزية، فإذا أحدث الإنسان رجعاً لهذا الشعور بمجرد وصوله دون استعمال عقله أدى ذلك إلى الضلال والخطأ، فقد ترى في الليل شيئاً ما فتظنه عدواً لك فتتحرك فيك غريزة البقاء بمظهر الخوف، فإذا استجبت لهذا الشعور مباشرة وهربت دون أن تستعمل عقلك كان ذلك خطأ منك، لأنك قد تهرب من لا شيء، وقد تهرب من شيء لا ينفع معه الهرب كالسبع مثلاً فإنك لا تقوى على الركض أمامه وإنما تلجأ إلى الحيلة في تسلق شجرة مثلاً، وما عبادة الأوثان وما تقديس الأولياء وما الخرافات والترهات إلا نتيجة لتحكيم الوجدان بعيداً عن العقل.
إذاً فلا بد أن يكون العقل هو جهاز التحكم، ولا بد أن يكون تنظيم الغرائز والحاجات العضوية خاضعاً للعقل، ولا بد من نظام يكبح فيه العقل جماع الطاقة الحيوية، فمن أين يأتي هذا النظام؟ وهل يستطيع العقل أن يضعه بنفسه؟!
إن العقل لا يمكنه أن يتعامل إلا مع الواقع المحسوس، والحقيقة أن الغرائز والحاجات العضوية ليست واقعاً محسوساً، صحيح أن العقل أدرك وجودها من خلال آثارها، ولكنه عاجز عن إدراك كنهها، فالعقل يدرك من وجود الكرسي أن هناك نجاراً صنعه، ولكنه لا يستطيع أن يدرك شكل النجار من إدراكه للكرسي ولا شخصيته لأن آثار الشيء لا تدل إلا على وجوده، فلا يمكن أن ينظم العلاقة مع النجار إلا إذا وقع النجار تحت حسه، لأنه إن اعتمد على الكرسي التي هي من آثاره في وضع النظام للنجار على أساس أنه نجار قد يفاجأ به أنه مهندس وأن النجارة مجرد هواية بالنسبة إليه. وكذلك العقل لا يمكنه أن يضع نظاماً للغرائز من خلال آثارها أو مظاهرها لأن الآثار غير الغرائز، وقد ينظم بعض المظاهر فتظهر الغريزة بمظاهر أخرى فيقع في الحيرة والارتباك، والعقل لا يملك مقياساً يقيس به الخوف أو الجوع أو الحنان أو التسلط أو حب التملك وبالتالي لا يمكنه أن يضع حدوداً بين هذه الجوعات ولا أن يحدد كمية كل منها.
هذا من ناحية واقع الغرائز والحاجات العضوية، إذ واقعها يدل على عجز العقل عن التنظيم، وكذلك فإن واقع العقل نفسه يدل على عجزه عن التنظيم، فالعقل عرضة للتفاوت والاختلاف بين إنسان وإنسان، فقد يرى هذا أن الأساس يكمن في حل المشكلة الجنسية وقد يرى ذاك أن الأساس يكمن في حل المشكلة الجنسية وقد يرى ذاك أن الأساس يكمن في حل المشكلة الاقتصادية وهكذا، وحتى نفس العقل قد يرى مرة أن المشكلة هي كذا ثم تزداد معلوماته فيرى أن رأيه كان خاطئاً ثم تزداد معلوماته فيغير رأيه الثاني وهكذا فليس من عقل كامل المعلومات. وهناك أيضاً ضغط البيئة، فالإنسان محدود ضمن بيئته، والمعلومات السابقة التي يستعملها في التفكير إنما يجمعها بواسطة الحواس، وحواسه محدودة في إطار البيئة والظروف التي يعيش فهيا، فيكون بالتالي عاجزاً عن الإحاطة بالوجود، وسيأتي نظامه منبثقاً عن بيئة معينة وعن ظروف وأوضاع معينة لا يصلح لأن ينظم الإنسان كإنسان.
وهكذا فالعقل محدود ضمن بيئة معينة وهو عاجز عن إدراك كنه الغرائز والحاجات العضوية، فكل نظام يضعه يكون تخبطاً واستعمالاً للعقل في غير محله، كما يكون عرضة للتناقض والتأثر بالبيئة، ويؤدي إلى الضنك والتعاسة والاضطراب.
وعلى ذلك فلا يمكن أن ينظم الإنسان إلا خالقه، لأنه وحده الذي يحيط بواقع هذه الغرائز والحاجات العضوية إحاطة كاملة، وهو وحده سبحانه المنزه عن النقائص والعيوب، فلا يأتي نظامه متناقضاً أو متأثراً ببيئة أو ظروف ـ تعالى الله عن ذلك ـ وإنما يأتي نظاماً كاملاً شاملاً يعالج الإنسان كإنسان في كل زمان ومكان، لأنه من صنع خالق الإنسان ]أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[.
فالنظام الصحيح لا يأتي من غير الله سبحانه، ومهمة العقل هي إخضاع هذه الغرائز والحاجات العضوية لهذا النظام عن طريق فهم هذا النظام والتقيد به، فالعقل بالنسبة للطاقة الحيوية بمثابة الخليفة بالنسبة للأمة، يملك السلطان ولكنه لا يملك السيادة، فمهمته تنفيذ النظام وليس وضعه، فالعقل يكبح جماح الغرائز والحاجات العضوية ويقيدها بشرع الله، والشرع ليست مهمته كبت الغرائز أو محاربتها، وإنما ينظمها تنظيماً دقيقاً يضمن إشباعها جميعها دون أن تطغى غريزة على غريزة أو حاجة على حاجة فيعيش الإنسان في توازن نفسي، ويتمتع بقسط وافر من السعادة والطمأنينة. فالشرع هو النظام الوحيد الذي يضمن هذه الطمأنينة، وكل ما دونه من أنظمة ونظريات بشرية إنما هي القلق والبؤس والضنك وهذه حقيقة ثابتة منذ أن خلق الله الإنسان وستبقى حتى قيام الساعة ]فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى @ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[.
1989-01-05