بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). [سورة التوبة: 28 ـ 29]
سبب النزول:
لما أمر النبي ﷺ علياً أن يقرأ على مشركي مكة أول سورة براءة، ويَنْبِذَ إليهم عهدهم، وأن يخبرهم أن الله بريٌ من المشركين ورسولُه، قال أناسٌ: يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدّة وانقطاع السبل وفقد الحمولات فنزلت الآية الكريمة: ]إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا…[ الآية (راجع البحر المحيط لأبي حيان الجزء الخامس صفحة 27).
المشركون في الآية الكريمة:
قال بعض العلماء إن لفظ المشركين يتناول جميع الكفار، سواء منهم عُبّاد الأوثان أو أهل الكتاب، لقوله تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[ أن يكفر به، فأطلق لفظ الإشراك على الكفر.
هل أعيان المشركين نجسة؟
دلّ ظاهر قوله تعالى: ]إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ[ على نجاسة المشركين، وقد تقدم معنا أن المراد من اللفظ (النجاسة المعنوية) أي أن معهم الشرك المنزّل منزلة النجس الذي يجب اجتنابه، أو أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة والطهارة، وعدم اجتنابهم النجاسات وقد نقل صاحب الكشاف: عن ابن عباس أن أعيان المشركين نجسة كالكلاب والخنازير تمسكاً بظاهر الآية، وروى ابن جرير عن الحسن البصري أنه قال: من صافحهم فليتوضأ.
ولكنّ الفقهاء على خلاف ذلك فقد ذهبوا إلى أن أبدانهم طاهرة، لأنهم لو أسلموا كانت أجسامهم طاهرة بالإجماع، مع أنه لم يوجد ما يطهرها من الماء أو النار أو التراب أو ما شابه ذلك، والآية لا تدل على نجاسة الظاهر وإنما تدل على نجاسة الباطن، ولا شك أنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يجتنبون النجاسات، فجعلوا نجساً مبالغة في وصفهم بالنجاسة.
والأصوب رأي الجمهور لأن المسلم له أن يتعامل معهم، وقد كان عليه السلام يشرب من أواني المشركين، ويصافح غير المسلمين والله أعلم.
هل يمنع المشرك من دخول المسجد؟
دلّ قوله تعالى: ]فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ[ على منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وقد اختلف العلماء في المراد من لفظ (المسجد الحرام) على أقوال عديدة:
أ- المراد خصوص المسجد الحرام أخذاً بظاهر الآية وهو مذهب الشافعية.
ب- المراد الحرم كله (مكة) وما حولها من الحرم وهو قول عطاء ومذهب الحنابلة.
ج- المراد المساجد جميعاً المسجد الحرام بالنص وبقية المساجد بالقياس وهو مذهب المالكية.
د- المراد النهي عن تمكينهم من الحج والعمرة وهو مذهب الحنفية.
ما هي الجزية، وما هو مقدارها وممن تؤخذ؟
الجزية: ما يدفعه أهل الكتاب للمسلمين لقاء حمايتهم ونصرتهم سميت جزية لأنها من الجزاء، جزاء الكفر وعدم الدخول في الإسلام أو جزاء الحماية والدفاع عنهم.
وقد اختلف الفقهاء في الذين تؤخذ منهم الجزية، فالمشهور عن أحمد: أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس، وبه قال الشافعي.
وقال الأوزاعي: تؤخذ من كل مشرك عابد وثنٍ، أو نارٍ، أو جاحدٍ مكذب.
وقال أبو حنيفة ومالك: الجزية تؤخذ من الكل إلا من عابدي الأوثان من العرب فقط.
فأما الذين تؤخذ منهم الجزية فهم الرجال البالغون، فأما الزمنى والعمي والشيوخ المسنون، والنساء، والصبيان، والرهبان المنقطعون في الصوامع فلا تؤخذ منهم الجزية.
وأما مقدارها فعلى الموسر ثمانية وأربعون ذهباً، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهماً، وعلى الفقير القادر على العمل إثنا عشر درهماً في السنة، وهو قول أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى.
وقال مالك: على أهل المذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الفضّة أربعون درهماً، وسواءٌ في ذلك الغني والفقير.
وقال الشافعي: على كل رأسٍ دينار سواءٌ فيه الغني والفقير.
وقال عبد القديم زلوم في كتاب (الأموال في دولة الخلافة): [إن مقدار الجزية التي فُرضت أيام الرسول ﷺ، والخلفاء من بعده لم يكن واحداً بل اختلف من مكان إلى آخر. فقد أمر رسول الله ﷺ معاذاً عندما أرسله إلى اليمن أن يأخذ «من كل حالم من أهل الذمة ديناراً أو عدله معافير». وعمر فرض على أهل الشام ومصر على الغنيّ أربعة دنانير، وعلى المتوسط دينارين، وعلى الفقير المتكسب ديناراً، كما فرض عليهم فوق ذلك طعاماً للجند. وضيافة للمسلمين، وفرض على أهل العراق ثمانية وأربعين درهماً على الغني، وأربعة وعشرين درهماً على المتوسط، واثني عشر درهماً على الفقير المتكسب، كما ضرب الزكاة مضاعفة على نصارى بني تغلب حين رفضوا أن تُضرب عليهم الجزية. عن النعمان بن زرعة «أنه سال عمر بن الخطاب، وكلّمه في نصارى بني تغلب. وكان عمر قد همّ أن يأخذ منهم الجزية، فتفرقوا في البلاد، فقال النعمان لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب، يأنفون من الجزية، وليست لهم أموال إنما هم أصحاب حروث ومواش، ولهم نكاية في العدو، فلا تُعن عدوك عليك بهم، قال: فصالحهم عمر على أَضْعَفَ عليهم الصدقة».
وفي صحيح البخاري عن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جُعل ذلك من قِبَل اليسار…
ومن هذا يتبيّن أن مقدار الجزية ليس واحداً، وليس محدداً بحد واحد لا يجوز تعديه كأنصبة الزكاة، بل تُرك ذلك لرأي الخليفة واجتهاده، ويُراعى فيه ناحية اليسار والضيق بحيث لا يشق على أهل الذمة، ولا يكلّفهم فوق طاقتهم، كما يُراعى فيه أن لا يُظلم بيت المال، وأن لا يحرمه من مالٍ مستحقٍ في رقابِ أهل الذمة] أ.هـ
الخلاصة:
أوجبت الشريعة الإسلامية الغراء على المسلمين قتال أهل الكفر والعدوان، ممن أبوا أن يدخلوا في دين الله، وأن ينعموا بظلال الإسلام الوارفة، وأحكامه العادلة، ويستجيبوا لدعوة الحق التي فيها الخير والسعادة لبني الإنسانية جمعاء.
وقد استثني الباري جلّ وعلا من قتال الكفار أهل الكتاب، فأمر بدعوتهم إلى الدخول في الإسلام فإن أبوا دفعوا الجزية، وإلا وجب قتالهم حتى يفيئوا إلى دين الله، ويرضوا بحكم الله جل وعلا ]حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[ والجزية هي ـ في الحقيقة ـ رمزٌ للخضوع والإذعان، رمزٌ لقبول غير المسلم بالعيش في ظل نظام الإسلام، رمزٌ لإظهار الطاعة والرضى والانقياد للدولة الإسلامية، وهي بعد ذلك تعبيرٌ عن مبدأ التعاون، بين الذميين والدولة الإسلامية ممثلة في خليفة المسلمين، بحيث لا يكون هناك خروجٌ عن الطاعة، ولا تمرّد على نظام الإسلام، أو بتعبير آخر: الاستسلام لحكم الإسلام والرضى بكل تشريعاته وأحكامه.
وإذا كان المسلم يدفع زكاة ماله كل عام لتنفق في مصارفها التي حدّدها القرآن الكريم، فإن هذا الذمي المعاهد لا يكلف بدفع الزكاة، وإنما يكلف بدفع الجزية… مقابل الدفاع عنه، وحمايته ونصرته، ومقابل استمتاعه بالمرافق العامة للدولة التي يعيش في كنفها، وتحت ظل حكمها، فليس الهدف إذاً من الجزية الجباية وسلب الأموال، وإنما الهدف الاطمئنان إلى رضى أهل الكتاب بالعيش في ظلال حكم الإسلام، والانقياد والطاعة لأحكامه وأوامره، وصدق من قال: «إنّ الله لم يبعث المسلمين ليكونوا جباةٌ وإنما بعثهم ليكونوا هداة».
ملاحظة:
استند في كتابة هذا التفسير للآيات على كتاب الشيخ محمد علي الصابوني «روائع البيان في تفسير آيات الأحكام»، طبعة عالم الكتب. وكتاب (الأموال في دولة الخلافة) لعبد القديم زلوم طبعة دار العلم للملايين.