بقلم: عبد الله أبو الهيجا
إن الناس يعيشون في جماعة وتنشأ بينهم علاقات دائمة لا بد أن تنظمها القوانين والأحكام، فتجعل لهم طراز عيش خاصاً وتؤدي إلى استقرارهم، والإسلام مبدأ أنزله الله بتنظيم هذه العلاقات بالأحكام الشرعية المسمّاة بنظام الإسلام، أما الكفار فإن العقول هي التي تضع قوانينهم ونظمهم ويظن البعض أن للعقل دوراً في الحكم في تنظيم شؤون الناس إضافة للشرع، فرب قائل يقول: إن أحكام العبادات لا تتغير أما أحكام المعاملات والعقوبات فتتغير حسب الظروف والأحوال لتواكب العصر، ويدَّعون أن النصوص القليلة لا يمكن أن تتسع للحوادث الكثيرة المتجددة مما يدعو إلى الاجتهاد العقلي ويعنون به اجتهاد العقل المجرد المقطوع عن الأدلة الشرعية، فهو من هذه الجهة كاجتهاد الكفار في وضع قوانينهم حسب عقولهم. ومنهم من يسمي هذه الآراء أحكاماً إسلامية، ومنهم من يستعمل بعض مصطلحات أصول الفقه ليقنع الناس أنه ليس نسيج وحده وإنما هو ينسج على منوال الفقهاء فيستعملون اصطلاح الاستحسان والمصلحة المرسلة والاجتهاد. فرأيت أن أوضح بعض هذه الأمور كما فهمتها من الكتب المشهورة فإن أصبت فمن الله سبحانه وإن أخطأت فمن نفسي وأسأل الله جلّ وعلا التوفيق والسداد.
والحكم والتشريع أو القانون هو إصدار قول يمكن ربطه بالوقائع العملية لمعرفة خيرها وشرها وبيان الأفضل فيها وقد قسّم الفقهاء الحكم إلى أربعة أركان: (1) الحاكم (2) المحكوم عليه (3) المحكوم فيه (4) الحكم نفسه.
أولاً: الحاكم: فلا حاكم ولا مشرّع سوى الله تعال:ى ]إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ[ [الأنعام: 57] بل أن كلمة الله: لفظ الجلالة تعني الحاكم الآمر المطاع مقابل العبد وهو الخاضع المأمور المطيع وقد قال تعالى: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ[ [الذاريات: 56] أي ليطيعوني فلا يمكن أن يقف الإنسان المطيع موقف الآمر الناهي. من هنا يقول الآمدي (ج1 ص113) في الإحكام: (لا حاكم سوى الله تعالى)، ويقول الغزالي في المستصفى (ص53): (أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه ولا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا لله).
أما النبي ﷺ والسلطان والسيد الأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى وطاعتهم.
ويقول الشوكاني في إرشاد الفحول (ص6): «ولا خلاف في كون الحاكم هو الشرع وذلك بعد البعثة وبلوغ الدعوة».
ويقول النبهاني في الشخصية (ج3 ص7): «الحاكم هو يملك إصدار الحكم على الأفعال والأشياء» في الطبيعة. والمقصود من إصدار الحكم هو تعيين موقف الإنسان تجاه الفعل هل يفعله؟ أو يتركه؟ أو يخير في ذلك؟ وتعيين موقفه متوقف على نظرته للأمر هل هو حسن أم قبيح. فهل الحكم بالحسن والقبح للعقل أم للشرع؟ إذ لا ثالث لهما. وموضوع الحسن والقبح أو الخير والشر أو الصلاح والفساد أو النفع والضرر: فكلها مترادفات تؤدي نفس المعنى ـ مبني على اختيار القيام بالفعل أو عدمه بناءً على العقل أو الشرع أو كليهما.
ويكفي أن نقول أن العقل محدود، يظن ظناً وتأتي النتائج بما يوافق ظنه وبما يخالفه، أما علم الله سبحانه فهو محيط وليس فيه إمكانية الخطأ فالصحيح الالتزام بالتحسين الشرعي سواءً وافق العقل أو خالفه إضافة إلى أن الله سبحانه ربط الثواب والعقاب والنتيجة بالقيام بالأعمال كما أمر. فمن يبتغي الثواب والنجاة من العقاب ومن يبغي خيره في الدنيا والآخرة فليتبع الله سبحانه: ]اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ[ [الأعراف: 3] والتحسين العقلي ليس في طاعة لله ولا تنفيذ لأوامره.
ثانياً: المحكوم عليه: وهو المكلف وشرطه أن يكون عاقلاً فاهماً بالغاً لا مجنوناً ولا نائماً ولا ناسياً ولا صبياً ولا مكرهاً. ]إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[ [الزخرف: 3] ]وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[ [الأحزاب: 5].
وقال ﷺ: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقال: «رفع القلم عن ثلاثة: الطفل حتى يبلغ والنائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق».
ثالثاً: المحكوم فيه: وهو أفعال العباد فقد كلفنا الله سبحانه بما نطيق من التكاليف ]وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ[ [البقرة: 286] ]لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ[ [البقرة: 286] فالأفعال المكتسبة الاختيارية المقدورة للناس والأصل فيها التقيد بالحكم الشرعي.
يقول الآمدي في الإحكام (ج1 ص113): «فلا تكليف بما لا يطاق والكفار مكلفون بالفروع والتكليف لا يتعلق إلا بما هو من كسب العبد».
ويقول الغزالي في المستصفى (ص40): «والمحكوم فيه هو فعل المكلّف ولا حكم قبل ورود الشرع والعقل معرِّف للحكم وليس بحاكم».
ويقول الشوكاني في إرشاد الفحول (ص12): «المحكوم به فعل المكلف وشرطه أن يكون ممكناً» ويقول النبهاني في الشخصية الإسلامية (ج3 ص7): «الأشياء والأفعال لا يجوز أن تعطي حكماً إلا إذا كان هناك دليل شرعي على هذا الحكم، إذ لا حكم للأشياء ولأفعال العقلاء قبل ورود الشرع، قال تعالى: ]وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً[ (الإسراء: 15) وقد صار للأشياء والأفعال حكم بعد ورود الشرع.
رابعاً: الحكم: وهو النتيجة المقصودة والثمرة الصالحة النافعة وهو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد بالاقتضاء أو الوضع أو التخيير.
ويؤخذ خطاب الشارع من كلام الله سبحانه في القرآن الكريم أو من سنة رسوله ﷺ لأن الله يقول: ]وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[ (الحشر: 7) ]إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ[ (النساء : 105) ]وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[ (النحل: 44). أو مما أرشد إليه القرآن الكريم والسنة وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم والقياس.
يقول الغزالي في المستصفى (ص6): «ففي البحث عن حقيقة الحكم في نفسه يتبين أنه خطاب الشارع ليس وصفاً للفعل ولا حسْنٌ ولا قبحٌ ولا مدخل للعقل فيه ولا حكم قبل ورود الشرع وفي البحث عن أقسام الحكم يتبين الواجب والمحظور والمندوب والمباح والمكروه… الخ».
ويقول النبهاني في الشخصية (ج3 ص15): «بقيت مسألة وهي: هل الشريعة الإسلامية حاوية لأحكام الوقائع الماضية كلها والمشاكل الجارية جميعها والحوادث التي يمكن أن تحدث بأكملها والجواب على ذلك هو أنه لم تقع واقعة ولا تطرأ مشكلة ولا تحدث حادثة إلا ولها محل حكم. فقد أحاطت الشريعة الإسلامية بجميع أفعال الإنسان إحاطة تامة شاملة… قال تعالى: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ[ [المائدة: 3] وقال تعالى: ]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[ [النحل: 89]. وقال ﷺ: «ما ليس عليه أمرنا فهو رد» فكل الحلول المطروحة للمشاكل إما أن تكون جاء بها الإسلام فهي ما عليه أمرنا فنقبلها وإما أنها ليست من الإسلام فهي مردودة على أصحابها ولا نقبل بها.
ويأبى البعض إلا محاولة إدخال أحكام عقلية ضمن الشرع ويحاولون التمويه على الناس بألفاظ كالاستحسان ونحن نثبت هنا ما يقوله العلماء عن الاستحسان.
يقول الآمدي في الأحكام (ج4 ص210): «فلم يبق إلا الخلاف في معنى الاستحسان وحقيقته ولا شك أن الاستحسان قد يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من المصور والمعاني وإن كان مستقبحاً عند غيره، وهو في اللغة استفعال من الحسن وليس ذلك محزّ الخلاف لاتفاق الأمة قبل ظهور المخالفين على امتناع حكم المجتهد في شرع الله بشهواته وهواه من غير دليل شرعي وأنه لا فرق في ذلك بين المجتهد والعامي».
ويقول الغزالي في المستصفى (ص 138): «إننا نعلم إجماع الأمة على أنه ليس للعالم أن يحكم بهواه وشهوته من غير نظر في دلالة الأدلة، والاستحسان من غير نظر في الأدلة الشرعية حكم بالهوى المجرّد وهو كاستحسان العامي ومن لا يحسن النظر؛ فإنه إنما جاز الاجتهاد للعالم دون العامي لأنه يفارقه في معرفة الأدلة الشرعية».
ويقول الشوكاني في إرشاد الفحول (211): «وقد أنكر الجمهور الاستحسان حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرّع. قال الروياني ـ في شرح ذلك ـ أي أنه ينصب من جهة نفسه شرعاً غير الشرع. وقال الشافعي في الرسالة: الاستحسان تلذذ ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم ـ أي العلم بالشريعة ـ ولجاز أن يخرج كل أحدٍ لنفسه شرعاً».
وأنكر القرطبي الاستحسان عند مالك: «وقال ليس معروفا في مذهبه»، وكذلك أنكر أصحاب أبي حنيفة ما حكي عنه من القول به.
وقال جماعة من المحققين أنه: «لا يتحقق استحسان مختلف فيه بين العلماء: فإن كان الاستحسان بمعنى العدول عن القياس إلى قياس أقوى منه فهو مقبول اتفاقاً175.
وإن كان دليلاً ينقدح في نفس المجتهد وتأكد من الدليل فهو مقبول اتفاقاً. وإن كان شاكاً في الدليل فهو مردود اتفاقاً لأن الأحكام لا تثبت بالشك والاحتمال.
ومن قال أن الاستحسان هو العدول عن الدليل إلى العادة لمصلحة الناس: فإن كانت العادة ثبتت زمن النبي عليه السلام فقد ثبتت بالنسبة لا بكونها عادة، وإن كانت ثبتت في عهد الصحابة من غير إنكار فقد ثبتت بالإجماع، وبذلك تكون مقبولة اتفاقاً. وإن كانت غير ذلك فهي مردودة اتفاقاً. وقال السمعاني: «إن كان القول بالاستحسان هو القول بما يستحسنه الإنسان ويشتهيه دون دليل فهو باطل ولا أحد يقول به. ثم ذكر أن الخلاف لفظي».
ويقول النبهاني في الشخصية الإسلامية (ج3 ص 412): «الاستحسان في اللغة استفعال من الحسن يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن كان مستقبحاً عند غيره، وهذا المعنى اللغوي ليس هو المراد من الاستحسان في أصول الفقه، فإنه لا خلاف في أنه لا يجوز القول في الدين بالتشهي ولا خلاف في امتناع حكم المجتهد في شرع الله بشهواته وهواه من غير دليل شرعي ولا فرق في ذلك بين المجتهد والعامي».
وأما المصالح المرسلة فيقول الآمدي في (ج4 ص215) من كتاب الإحكام تحت عنوان ما يظن أنه دليل صحيح وليس كذلك ويورد الاستحسان أولاً والمصلحة المرسلة حيث يقول: «وتنقسم باعتبار شهادة الشارع لها إلى معتبرة وملغاة وقد بيَّنا ما يتعلق بالقسمين الأولين ولم يبق إلا القسم الثالث وهو المناسب المرسل وهو ما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إلغاء.
وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به هو الحق إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به مع إنكار أصحابه لذلك ولعل النقل إن صح عنه فلم يقل بذلك في كل مصلحة بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعاً، لا فيما كان غير ضروري ولا كلي ولا قطعي. وذلك كما لو تترس الكفار ببعض المسلمين بحيث لو كففنا عنهم لغلب الكفار على دار الإسلام ولو قتلناهم اندفعت المفسدة عن بقية المسلمين قطعاً ـ وهي مسألة خيالية كما يقول البعض ـ وإذا عرف ذلك فالمصالح منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها وإلى ما عهد منه إلغاؤها وهذا القسم متردد بين القسمين فامتنع الاحتجاج به دون شاهد بالاعتبار يعرف أنه من قبيل المعتبر دون الملغي».
وجاء في المستصفى للغزالي (ج1 ص132): تحت عنوان ما يظن أنه من أصول الأدلة وليس منها الاصلان الثالث والرابع من الأصول الموهومة في الاستحسان والاستصلاح.
ويقول الغزالي في (ج1 ص29): «المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع لاعتبارها وقسم شهد الشرع لبطلانها وقسم لم يشهد لاعتبارها ولا بطلانها».
أما ما شهد الشرع لاعتبارها في حجة ويرجع حاصلها إلى القياس والقسم الثاني قول باطل ومخالف للنص بالمصلحة وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشريعة نصوصها بسبب تغير الأحوال ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة بفتواهم وظن الحاكم والناس أن ما يفتي به العلماء هو تحريف للدين بالرأي من قبل العلماء والقسم الثالث إما أن يكون من الضرورات أو الحاجات والتحسينات.
أما المصلحة فهي جلب منفعة أو دفع مضرة ولا نعني هذا المعنى ولكننا نعني بالمصلحة المحافظ على مقاصد الشرع ومقاصد الشرع خمسة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ـ دل عليها تعظيم وتحريم جرائم الردة، وقتل النفس المعصومة وشرب الخمر والزنا والسرقة… الخ ـ فكل ما يحافظ على هذه الخمسة هو من مقاصد الشرع وهو مصلحة وما يفوتها فهو مفسدة إذا أردنا المناسب في القياس فهو هذا الجنس.
والأمثلة عليه في الشرع كقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته وأما الحاجات من المصالح كتسليط والولي على تزويج الصغير والصغيرة فلا ضرورة له وأما التحسينات كتقييد النكاح بالولي لأن الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد والواقع في الرتبتين الأخيرتين ـ الحاجات والتحسينات ـ أنه لا يجوز الحكم بمجردها إن لم يتعتضدا بشهادة أصل، وأن لم يشهد الشرع بالرأي فهو كالاستحسان فإن اعتضد بأصل فذاك قياس فإن قيل فقد عدتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الأصول الموهومة فليلحق هذا الأصل بالأصول الصحيحة ليصير أصلاً خامساً بعد الكتاب والسنة والإجماع والعقل أي القياس.
قلنا هذا من الأصول الموهومة إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ لأننا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ قصد فهم من الكتاب والسنة والإجماع وكانت من المصالح الغربية التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطروحة ومن صار إليها فقد شرع ]أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[ [الشورى: 21] ويقول الشوكاني في إرشاد الفحول (ص 212) في المصالح المرسلة: «قد قدمنا الكلام فيها في مباحث القياس وسنذكر هنا بعض ما يتعلق بها تتميماً للفائدة ولكونها قد ذكرها جماعة في مباحث الاستدلال.
قال الخوارزمي المراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق وقد أنكر جماعة من المالكية ما نسب إلى مالك من القول بها ومنهم القرطبي وقال: ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى عدم الاعتماد إليها وهو مذهب مالك. ولقد اجترأ الجويني إمام الحرمين وجازف فيما نسبه إلى مالك من الإفراط في هذا الأصل وهذا لا يوجد في كتب مالك ولا في كتب أصحابه».
ويقول النبهاني في الشخصية (ج3 ص421) في المصالح المرسلة: «قسم شهد الشرع لها بالاعتبار فهي حجة ويرجع حاصلها إلى القياس… وقسم، ما شهد الشرع لبطلانها… وقسم ما لم يشهد له الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار»، وهذا ليس بحجة لعدة وجوه:
أحدها: أنها تناقض تعريف الحكم الشرعي: فهي تفتقر إلى خطاب الشارع.
ثانيها: أن الله تعالى يقول: ]وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[ [الحشر: 7] والمصلحة المرسلة أتى بها العقل ولم يأت بها الرسول ﷺ.
ثالثها: قال تعالى: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ[ [النساء: 65] وقال: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ[ [المائدة: 44] وقال: ]وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ[ [الأنعام: 153] وجَعْلُ المصلحة المرسلة دليلاً هو تحكيم لغير ما أنزل الله، وحكم بغير ما أنزل هو حكم بما جاء به العقل واتباع لغير الشرع أي الصراط المستقيم.
رابعها: أن الله تعالى يقول: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا[ [المائدة: 5] فجعل المصلحة المرسلة التي دل عليها العقل دون الشرع معناه أن الشريعة الإسلامية ناقصة وهذا مناقض للآية الكريمة ومخالف لواقع الشريعة.
خامساً: أن شرط المصلحة المرسلة أن لا يرد نص في الشرع يدل على اعتبارها وهذا الشرط كافٍ لإسقاطها لأن الحكم المطلوب حكم الشرع لا حكم العقل وهنا لا دليل من الشرع.
وخلاصة القول: أن الحكم الشرعي الإسلامي هو تطبيق الدليل الشرعي على المسألة العملية التي نواجهها لنصل إلى أن الشرع يفرض علينا القيام بهذا العمل أو يندبنا إليه أو يبيحه لنا أو يكرهه أو يحرمه علينا.
ويؤخذ الدليل الشرعي من أصوله وهي القرآن الكريم والسنة الشريفة وإجماع الصحابة والقياس وما عدا ذلك من الآراء العقلية التي لا تستند إلى دليل فيضرب بها عرض الحائط وهي ليست من الإسلام في شيء من بل هي سير على منهج الكفار الذين يشرعون ويحلون ويحرمون بعقولهم.
مصادر البحث:
1- القرآن الكريم.
2- الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي.
3- الأحكام في أصول الأحكام/ الآمدي.
4- المستصفى من علم الأصول/ أبو حامد الغزالي.
5- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول/ الشوكاني.
6- الشخصية الإسلامية/ الجزء الثالث/ النبهاني.