فكر إسلامي تعدد الأحزاب، ووحدة الجماعة الإسلامية
1988/07/04م
المقالات
2,713 زيارة
بقلم: عبد الرحمن أبو الهيجا
الحزب جماعة بينها رابطة، هو يقوم بأعمال سياسية. إما من حيث اللفظ فقد ورد في القرآن الكريم عدة مرات تارة عن المسلمين: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ) [المائدة:56]، (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22]. وطوراً عن المنافقين والكفار: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة:19]، (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ)[المجادلة:19] ، (وَلَا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ @ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم:31-32]، فلا مشاحة إذاً من استعمال هذه الكلمة من حيث اللفظ.
أما من حيث الفكر الذي يتبناه الحزب ويتكتل حوله ويشكل رابطة بين أفراده فهو في الأحزاب الإسلامية، الإسلام، ويحرم على المسلمين التكتل أو الدخول في أحزاب لا تقوم على الإسلام أو تأييد ومناصرة مثل هذه الأحزاب: (وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء:155] ، فالمسلم هو المنقاد لله وحده والمتوجه وجهة الشرع: وجهت وجهي ـ أي اتجاهي وعملي وسلوكي في هذه الحياة ـ للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً ـ مستقيماً ـ مسلماً ـ منقاداً ـ وما أنا من المشركين ـ الذين يتوجهون إلى الله مع غيره من الأهواء والميول والأشخاص والمطامع الدنيوية والأفكار العقلية الظنية المستقلة عن الشرع ـ إن صلاتي ـ عبادتي ـ ونسكي ـ طاعتي ـ ومحياي ـ جميع حياتي التي أعيشها في الدنيا ـ ومماتي لله رب العالمين.
والإسلام فكر لأنه يخاطب العقول لتتفكر به، فنؤمن بالله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، والإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لنا: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)، ويمتاز عن كل الأديان والأفكار الوضعية الأخرى بأنه يخاطب العقل فيقنعه بحججه القوية البالغة: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ @ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) [الأنعام:148] والقاعدة الشرعية تقول: (إن أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب) فالعقل مناط التكليف، فيفهم الإنسان الخطاب بعقله ويتفكر به ويؤمن به، ثم يسلم قياده إلى خالقه جل وعلا، وينفذ أوامره ويضبط سلوكه حسب هذه الأوامر.
أما من ناحية السياسة التي هي رعاية شؤون الناس، فمعلوم أن الإسلام جاء لرعاية شؤون الناس في الدنيا، وأما الآخرة فهي دار جزاء لا دار عمل، وتنظيم شؤون الناس في الدنيا ورعايتهم يقتضي تنظيم علاقة الإنسان بربه وهو العبادات وعلاقة الإنسان بنفسه وهو الأخلاق، وعلاقة الإنسان بغيره من الناس وهو المعاملات والعادات فالإسلام ينظم العلاقات بين الناس بنظام سياسي واجتماعي واقتصادي وتعليمي وعقوبات…الخ وبمراجعة كتب الفقه يجد المحتاج بغيته من هذه القوانين والأنظمة. وعندما نلفظ كلمة (السياسة) يتبادر إلى الذهن الحكم خاصة، وقد جاء الإسلام بالخلافة نظاماً للحكم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوكل الشرع السلطة للأمة فهو يخاطب الجماعة الإسلامية أو الأمة التي تعني جميع المسلمين طالباً منهم التنفيذ (وأعدوا، فاقطعوا، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، فاجلدوا، انفروا…الخ) وتنيب الجماعة (الأمة عنها شخصاً واحداً أميراً حاكماً ينفذ الأحكام الشرعية، وقد نصت بيعة الحكم على ذلك: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة») وهذا صريح في أنه عقد رضائي تبادلي بين طرفين أحدهما الجماعة (الأمة) التي تسمع وتطيع وتمتثل للأوامر، فهي إذن مأمورة محكومة، والطرف الثاني هو شخص الحاكم أي الأمير الذي يحكم الناس بالعدل أي بالإسلام فهو يقدم للناس الحكم بالإسلام وهم يقدمون له السمع والطاعة فإن أمر بمعصية وهي ليست من العدل المتفق عليه فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أما كون الحزب عملاً جماعياً فالإسلام يحض على ذلك: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) بل إنه ليحرم على المسلم أن يقصر الإسلام على نفسه وأعماله الفردية، فعليه واجب حمل الدعوة الإسلامية إلى الكفار: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) والخير هو الإسلام: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [الشورى:15] ويجب على المسلم أن يحكم الكفار بالإسلام: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) [النساء:105] ويجب على المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ… كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) [المائدة:79] وأخرج أبو داود والترمذي قال صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض» ثم قال: «لعن الذين…الخ»، ثم قال: «كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم» فالإسلام نظام الجماعة لا يترك شأناً من شؤون الدنيا إلاّ نظمه عليها أمير مطاع: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلاّ أمّروا عليهم أحدهم» [مسند الإمام أحمد].
لهذا فإن العمل الحزبي فرض على المسلمين به يؤدون فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدعون للإسلام وينصبون خليفة ويحاسبونه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104]، وهذا طلب جازم بتكوين حزب سياسي أو أحزاب سياسية، فكلمة أمّة مفردة وتعني الجنس ولا تقيّد العدد بواحد وذلك كالآية: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) قال الفقهاء إن كان البغاة فئة واحدة قاتلهم الإمام وأهل الحق وإن كانوا فئتين باغيتين أو عدة فئات فكذلك، والمعنى قاتلوا الفئة الباغية إن كانت واحدة والفئتان أو الفئات الباغية جميعها إن كانت متعددة، وكذلك حديث: «من رأى منكم منكراً فليغيره…الخ» لا يعني أن المسلم إذا رأى عدة منكرات فيغير واحداً فقط ويترك البقية.
ولا يؤثر التعدد الحزبي في وحدة الجماعة ـ الأمة الإسلامية ـ ولا في وحدة عمل المسلمين ولا يمنع تجانسهم وتوادهم وتراحمهم وتواصيهم بالحق والصبر فالخلاف الفكري الاجتهادي جائز بين المسلمين في الفروع، وكل مجتهد يعمل بما أدى إليه اجتهاده وكذلك من يقلده، هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية فإذا اجتمع مسلمون على أحد الفروض فيجب أن يؤمهم أحدهم بغض النظر عن خلافاتهم الفقهية، فإذا اجتمع بعض المسلمين في أحد المساجد لأداء الصلاة المكتوبة فلا يؤلفون جماعات كثيرة حسب تعدد مذاهبهم، بل يكونون جماعة واحدة ويصلون خلف إمام واحد، فيجب على المسلمين عند القيام بالعمل الواحد في الوقت الواحد والمكان الواحد أن يؤمّروا أميراً واحداً ولو خالفه البعض في تفاصيل مذهبه قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا) وجميعاً حال تصف الكيفية فإذا اعتصمنا كل على حدة فرداً كان أو حزباً فقد عصينا الأمر، وقال: لا تفرقوا ليؤكد نفس المعنى وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) فهم يؤدون فريضة الجهاد صفاً واحداً أي جماعة واحدة منظمة، ويشبه ذلك بالبنيان المرصوص فهو قطعة واحدة. فإذا صلى المسلمون في مسجد واحد وفرض واحد عدة جماعات بعدة أئمة لم يكونوا صفاً واحداً ولا كالبنيان المرصوص. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» [رواه أبو داود] ، فأوجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأمير شخص واحد فقط في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهاً بذلك على سائر الأعمال الاجتماعية. وقد قال في إمارة الحكم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» والقتل هو أعظم العقوبات فيكون مناسباً لأعظم الجرائم والمنكرات.
ومن هنا فإنه بالرغم من أمر الشارع المسلمين بتأليف حزب أو أحزاب سياسية فإنه عند أداء الفرض الجماعي كنصب الخليفة يجب على جميع المسلمين بما في ذلك الأحزاب الإنضواء تحت أمير واحد وبذلك تتحد جهودهم ويرضون ربهم ويصلون إلى مبتغاهم.
على المسلمين العاملين وهم أعضاء الأحزاب الإسلامية أن يتواصوا بالحق والصبر ويتركوا العصبية لحزب أو لشخص أو هوى فإن ذلك جاهلية، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس منا من دعا إلى عصبية» وقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» وهواه هو ميله وحبه ورضاه وسخطه…الخ ولا يجوز التعصب لأشخاص فلا عصمة لغير أنبياء الله وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، وبعد تمحيص الآراء ومعرفة الأحكام المدعمة بأدلة من الأوهام والأحكام العقلية يصار إلى الالتزام بالحكم الشرعي ويضرب بالأوهام عرض الحائط، ولا تتعدد الأحكام إلا بتعدد الأدلة أو دلالالتها وهذا هو الوجه الوحيد الجائز شرعاً وهكذا جاز اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم.
1988-07-04