إشراقة النصر
1988/06/04م
المقالات
2,854 زيارة
بقلم: عبد الرحمن أبو الهيجا
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله السميع المجيب والصلاة على الرسول الحبيب. وبعد فلما سمعت ورأيت ما فعل الكافر الخسيس بالمسلمين في عقر دارهم من هدر للدماء وإرهاب للأطفال وهتك للأعراض ونهب للأموال وتدنيس لمحرمات الله، ورأيت ما يبادره به النساء والأطفال من الرجم بالحجارة كما يُفعل بإبليس ـ وكذلك دواء السفلة والأوغاد ـ ورأيت جبنهم وغدرهم رغم احتياطهم بصنوف السلاح وهربهم كالنعام أمام موجات اليافعين والفتيات والأطفال الذين يتلقون ويدفعون رصاص العدو بوجوههم بينما يدفع العدو الحجارة بأقفيتهم. أقول: لما سمعت ورأيت كل ذلك تذكرت الجازية، وقديماً قيل: والشيء بالشيء يُذكر. فهل تعرفون الجازية؟
هي بطلة قصة بني هلال، وكنت أقرأها في الطفولة، والجازية اسمٌ عربي معبّر، غايةٌ في الجمال، فالجازية هي المعطاء، وقد وردت في قصتها مواقف شبيهه بما يدور الآن على أرض فلسطين، فقد كان بنو هلال يأخذون نساءهم معهم في حروبهم ـ وهي عادة عند عرب الجاهلية ـ كيلا يهربوا إذا استمر القتل والقتال فيتركوا نساءهم للسبي. وكان أول الهاربين السلطان حسن ـ وهو أخوها وسلطان الجميع ـ فتطل عليه الجازية من الهودج بوجه كأنه البدر المنير في قبتّه وتناشده الرجوع إلى المعركة وتستغيث به وتسخر له بدموعها تستدر بها عطفه وتوقظ فيه الشهامة والإباء وتقوى الله عز وجل وتذكره غضب الله على الفارّين من الزحف عندما يلتقي الجمعان، فيعتذر لها على خجل وعجل بأن خلفه الأمير فلان ويمضي في طريقة كحمار وحشي مستنفر فر من قَسْوَرَة، فهو لا يلوي على شيء. ثم يلحق به بعلها القاضي الفاضل العادل حامل ميزان الحق الذي أنزله الله إلى الناس وموئل الناس ومفزعهم إذا ادلهمّت الخطوب وتشابهت الأمور فتفعل معه فعلها مع أخيها ويفعل هو كما فعل السلطان ويستن بسنته السيئة ويحذو حذوه حذو القذة بالقذة ويقتدي بشر الأمور ولكل أمر أسوة وقدوة. ويتتابع الأمراء والحكام فارين من الموت الزؤام حتى يمنّ الله على الذين استضعفوا بالأمير أبي زيد الأسمر الشجاع الذي كان عبداً فصار بعلوّ همّته سيداً فتقول له الجازية ما قالت لغيره فتأخذ أبا زيد النخوة والحميّة ويرق لدموع الجازية الجارية، فيفيق من غفلته ويصحو من سكرته، ويعي من ذهلته ويقوم من كبوته، ويتذكر قول العزيز الكريم أن الموت حق وأن الفارّ من الزحف يبوء بغضب الله وبالخيبة فيتوب من زلته ويكر راجعاً إلى العدو ويطرد الخوف والوجل ويسن السنة الحسنة ويهجم على الأعداء هجوم طالب الشهادة فيفرق الجموع ويدب في قلوب الذين كفروا الرعب. هذا عن أبي زيد.
وأما أمراؤنا اليوم فأراهم يطيرون إلى عواصم الدول الكبرى مستعطفين راجين حماية عروشهم من نقمة الأمة، وأنفسهم تحدثهم كيف إذا استمرت هذه الانتفاضة التي تلهب المشاعر وتحيي ميت الأنفس فماذا يحلّ بنا إذن؟ يتوسلون إلى مؤتمر دولي ليئدوا هذه القضية ويكتفوا شره هذه البلية. ويصيح كبيرهم محذراً من العواقب الوخيمة فيقول: لقد حذرتكم منذ سنوات، وحذرت المجتمع الدولي أن نتيجة هذا الظلم ستكون انتفاضة بالمجتمع الدولي أن يعجلوا بمؤتمر السلام قبل أن يتزعزع الاستقرار والسلام في العالم، ويتوسط عند المنتفضين أن يوقفوا أعمالهم لمدة ستة أشهر وهو يضمن لهم حقوقهم بعد ذلك جميعها من تسليم البلاد والعباد إلى اليهود لقمة سائغة، ويضع شرف كلمته وزعامته وعبقريته ضمانه لهم.
هذا عن أمرائنا وقد جاء الآن دور دريد فقد خطرت صورته مع هذه الصور. دريد بن الصمة أحد أمراء العرب في الجاهلية قيل له ذات مرة: لماذا تدعون أبنائكم بأسماء الوحوش كالأسد والفهد، وتدعون عبيدكم بالأسماء المؤنسة كجمال وأنور ومبروك؟ فقال دريد: إنما نسمي أبناءنا للقاء عدوِّنا فيُرهبونهم، ونسمي عبيدنا لخدمتنا فيؤنسوننا. هذا عن الأسماء والسادة كالسلطان حسن والعبيد كأبي زيد، وعن السبايا والجاهلية والإسلام.
ونعود الآن إلى ما نحن فيه فبعد أن طافت بخاطري هاتيك القصص وهي تمر مسرعة كالصور التلفزيونية الملونة، قلت في نفسي: إن الأسماء موجودة كلها سادتَها وعبيدها ولكنها ترهبنا نحن وتؤنس أعداءنا، والهزائم والتبريرات تترى فهل هؤلاء الأشبال هم أبو زيد وخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب والمعتصم وصلاح الدين؟ وهل نساء فلسطين هن الجازية؟!
إن اللواتي قُدنَ هذا الزحفَ في الكفّار هُنَّهْ
وشَحَذْنَ أطرافَ الحصى وأَنَلنَها أبناء هُنَّهْ
يضربْن أدبار اليهودِ الهاربين وتلك سُنَّةْ
فعجبتُ من أخلاقهنَّ وصبرهنَّ وفِعلهنَّهْ
وسألتُ من أنتنَّ يا؟! نفسي الفِدا لجهادِكُنَّهْ
ما خطبُكنَّ؟ الورعَ(1) تَقَتَحِمْنَ لا تخشيْنَ مِنَّهْ
أين الرجالُ؟ هل الثغورُ خلوْنَ من أَبطالِهِنَّهْ
فعَدَتْ عليها العادِياتُ(2) من اليهودِ فوَيْحَهُنَّهْ
يذهبْن بالغَمْرِ(3) الوليدِ إلى الجهادِ فيُرسِلُنَّهْ
فيحطُّ في الأعداء بالمِقْلاعِ رَمْياً كالأَسِنَّهْ
يا ليت شِ‘ري! ذا عليُّ ومرحبٌ (4) فتَذَكَّرُنَّهْ
لا شُلَّ منكَ يدٌ أبا زيدٍ(5) نساؤك فَارْعَهُنَّهْ
فلقد تغيَّبَ في القصورِ الشامخاتِ رُعَاتُهُنَّهْ(6)
حول الموائِد والعرائسِ والكؤوسِ وغَيْرِهِنَّهْ
لم يَحفظُوا لله عهداً أقسموا أن يوثِقُنَّهْ(7)
حتى نهضتَ إلى العدو فهِجْتِ في الأِعلامِ رِنَّهْ(8)
فشكَوْكَ إذْ ظلموكَ من أسْيادِهِمْ يرجُون مِنَّهْ
يرجُونَ مؤتَمَرَ السَّلامِ معَ اليهودِ ويُجْلِسُنَّهْ(9)
فيُسَاوِمُونَ على البِلادِ على الثُغُورِ وأَهلِهِنّهْ
هذي النساء كم انْتَظرْنَ فُهَيْدَهُنَّ عَقيدَهُنَّ
عَرَفاتَهُنَّ حُسَيْنَهُنَّ، مباركاً ورَفْسنجانِهنَّ
صدَّامُ يا وِردْ(10) الفُرات مَدجَّجاً لذ يا دِهِنَّهْ(11)
يا فارسَ الصحراءِ نادَتْك العذارى لَبَّهِنَّهْ
بالقادسيةِ تدَّعِي والمسلمون مع اليهودِ على المَظِنَّهْ(12)
أوَ تخجلون من العليم بحالِكُمْ وبَحالِهِنَّهْ؟!
يا لَيْتَكُم تتعلَّمون دروسَهُنَّ وبذْلَهُنَّهْ
المؤمناتُ الصادقات العامِلاتُ لِرَبِّهنَّهْ
يُبْلينَ في الكفَّار رَمْياً ثمَّ لا يسمعْ،َ أنَّهْ(13)
من دونكم يحمون أرضَ المسلمينَ فلَيْتَهُنَّهْ
يَثْكَلْنَكُمْ فَيُعَوَّضُ الله لَهُنَّ عَزِيزَهُنَّهْ
بفوارسٍ تَتَفَجَّرُ الأَعْدَاء زَحْفاً تُهْلِكُنَّهْ. q
هوامش:
(1) الروع: الحرب
(2) العاديات: المصائب.
(3) الغَمْرِ: الفتى اليافع غير المجرب.
(4) مرحب: أمير اليهود في خيبر وقد قتله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
(5) أبو زيد: بطل قصة بني هلال، أصله عبد لكنه نبغ في الحكمة والقتال فسوّدوه.
(6) رعاتهنه: رعاة الأمور وهم الأمراء والحكام.
(7) توثيق العهد: توكيد، إشارة إلى القسم الذي يقطعه الحكام على أنفسهم قبل تولي الأمر.
(8) هجت زنه: أثرت وسائل الأَعلام بأفعالك المذهلة.
(9) مؤتمر السلام: المؤتمر الدولي الذي يطالب بعقده حكام المسلمين لإرساء صلح شامل مع اليهود يتم الاعتراف فيه بشرعية دولة إسرائيل.
(10) ورْد: من أسماء الأسد.
(11) ذيَادهنه: حمايتهن.
(12) المظنة: فطنة النصر أو الهزيمة.
(13) أنه: أنين.
1988-06-04