الأزمة الكورية والصراع الدولي
2017/11/17م
المقالات
9,614 زيارة
الأزمة الكورية والصراع الدولي
حمد طبيب – بيت المقدس
النظام الرأسمالي قائم على أساس واهٍ سقيم هو (الحل الوسط)، ويسعى القائمون عليه إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية، والمتع والشهوات؛ لأن السعادة في نظرهم مادية بحتة، ولا يتورعون لتحقيق ذلك عن تجويع الشعوب، وسلب لقمة عيشهم، واستعمار بلادهم ونهب ثرواتها. قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢) لذلك كان الاستعمار طريقة في نشر هذا المبدأ المادي الهابط، وكان من ثماره الحروب الطاحنة المدمرة؛ كالحرب العالمية الأولى والثانية، وكانت الصراعات والأزمات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، يقول المفكر الرأسمالي (آدم سميث) في كتابه (ثروة الأمم): «إن الجشع الشخصي هو أعلى مراتب الأخلاق؛ فبقدر ما يكون الفرد جشعًا، يكون متخلقًا، وهذا ما آل بالإنسانية إلى الصراع والحروب من أجل التملك والسيطرة؛ فكان إهدار الثروة، والتنافس في إهدارها أهم ما ميز الحضارة الحديثة». ومن هذه الأزمات المتصاعدة هذه الأيام، ما يسمى (بالأزمة الكورية)، فما هي حقيقة هذه الأزمة؟ وما هي جذورها؟ وما هو تأثيرها على السياسة الدولية، وخاصة بين الدول العملاقة؟.
قبل أن نجيب عن هذا نقول: بأن جميع الصراعات الحاصلة هذه الأيام بين الدول المتجاورة أو البعيدة أساسها وسببها هو الاستعمار الناتج عن المبدأ الرأسمالي. فما حصل سابقًا، ويحصل اليوم بين الكوريتين، أو ما حصل بين شطري فيتنام، أو بين غيرها من صراعات؛ مثل إيران والعراق، أو تركيا وقبرص… سببه أطماع الاستعمار وسياساته الهابطة، وما يدبره هذا الاستعمار من أجل تحقيق المنافع والمصالح المادية الهابطة.
أما حقيقة هذه الأزمة وجذورها؛ فهذه الأزمة (أي بين الكوريتين)، وما نتج عنها من صراعات دولية وإقليمية؛ جذورها قديمة تمتد إلى بداية الأربعينات من القرن الماضي؛ عندما كان الصراع بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، وبين المعسكر الغربي بقيادة أميركا. وقد تقلب الصراع فيها مرات عديدة بين الدول الكبرى (روسيا وأميركا وبريطانيا والصين) حتى استقر على ما هو عليه هذه الأيام من صراع بين العملاقين: (الصين وأميركا) بعد زوال منظومة الاتحاد السوفياتي، ووصل إلى ما وصل إليه من تهديد بتدمير كوريا الشمالية؛ كما حصل في هيئة الأمم المتحدة – قبل أيام قليلة – على لسان رئيس أميركا…
وأما تأثيرها على السياسة الدولية؛ فإن كلاً من العملاقين (أميركا والصين) يستخدم ويستغل هذه الأزمة في تحقيق أهدافه السياسية وأطماعه حتى ولو أدى ذلك إلى إزهاق أرواح ملايين البشر، كما حصل بالفعل في بداية الخمسينات من القرن الماضي في الحرب الكورية؛ بين كوريا الجنوبية وأميركا من جانب، والصين وكوريا الشمالية في المقابل.. حيث ذهب ضحية هذا الصراع الملايين من القتلى والجرحى. فأميركا تهدف من خلال التسخين الحاصل لهذه الأزمة إلى أهداف منها:
1- نشر مزيد من قواها العسكرية في بحر الصين الجنوبي، وتعزيز قواتها وقواعدها العسكرية في الدول المجاورة.
2- العمل على تضييق الخناق وإحكام الدائرة على الصين، حتى تبقى ضمن دائرة إقليمية لا تتعداها.
3- استعراض أميركا لقوتها العسكرية وعنجهيتها، وإرسال رسالة بأنها قادرة على فرض هيمنتها على العالم؛ عسكريًا وسياسيًا، ولو كان ذلك باستخدام القوة.
4- هناك هدفٌ اقتصادي يصب في دائرة أهدافها السياسية؛ وهو إنهاك الصين بالإنفاق العسكري، والبقاء في حالة تأهب دائم. جاء في كتاب مفاهيم سياسية: «إن أميركا ستستمر في تحريك القضية الكورية؛ لتبقى مشتعلة دون أن تهدأ، لكن بشرط أن تشغل الصين بالمشكلة، لا أن تكون مشكلة لأميركا وحدها».
أما الصين فإنها تعمل على استغلال هذه الأزمة؛ دوليًا وإقليميًا في أهداف أخرى منها:
1- تمريغ هيبة أميركا أمام العالم؛ وذلك بجرها إلى صراع سياسي غير متكافئ، بين دولة عظمى وأخرى صغرى بالقياس معها.
2- الدخول مع أميركا في مباحثات سياسية واقتصادية، وتفاهمات؛ وخاصة في أمور التجارة الدولية، وأسعار الفائدة، وسعر العملات، وغير ذلك من مكاسب اقتصادية.
3- تحريض دول العالم ضد سياسات أميركا الاقتصادية وتهديداتها العسكرية؛ وخاصة ضمن المنظومة الدولية للأمم المتحدة ومجلس الأمن؛ وقد ظهر هذا الأمر بشكل واضح في جلسة هيئة الأمم الأخيرة (20-9 2017م) حيث دعت كل من (أوروبا والصين وروسيا) أميركا إلى عدم استخدام لهجة التهديد والوعيد في حل هذا الصراع، وإلى اتباع السبل الدبلوماسية، وحذرت من أن استخدام القوة العسكرية لحل هذا الصراع سيجرُّ على العالم الويلات، وتتحمل أميركا نتائج ذلك.
4- نقل الصين لقوات عسكرية في محيط كوريا من أجل الحماية؛ وهذا ما حصل بالفعل 15-4-2017م؛ حيث نقلت الصين آلاف الجنود، وكثيرًا من المعدات العسكرية إلى مقربة من حدود كوريا.
5- استغلال الصين لهذه الأزمة في إيجاد حلف دولي ضد أميركا وتهديداتها خارج المنظومة الدولية؛ وخاصة مع روسيا والاتحاد الأوروبي؛ وقد نجحت إلى حد ما في إثارتهما ضد تهديدات أميركا المتكررة على لسان رئيسها.
هذه هي طبيعة الصراع الحاصل بين العملاقين؛ أميركا والصين، وتأثيره السياسي على المحيط، وعلى الدول الكبرى. فإلى أي حدّ يمكن لهذه الأزمة أن تستمر؟ وهل يمكن أن تجنح إلى الطرق العسكرية في حلها؟.
إن هذه الأزمة لا يراد لها – من قبل العملاقين – أن تحل في عهد قريب، وإن كانا يتظاهران بذلك عبر المنظومة الدولية. وكلما هدأت نارها قليلًا سُكب عليها الزيت لتشتعل من جديد؛ إلا أن موضوع الطرح العسكري هو أمر مستبعد؛ ضمن مجريات الأحداث والوقائع الحالية؛ الدولية والإقليمية، وان كان وارد الحصول مستقبلًا…
وما يجعل هذا الصراع العسكري مستبعدًا حاليًا عدة أمور منها:
1- إن الأمور ما زالت في دائرة الدبلوماسية، ويمكن السيطرة عليها عن طريق الصين والمصالح المشتركة بينهما، وعن طريق المنظومة الدولية (هيئة الأمم) ولجوئها – أي أميركا – إلى الصين تارة، والى المنظومة الدولية تارة أخرى؛ من أجل تشديد الحصار، وكبح جماح كوريا؛ وقد برز هذا الأمر في عدم رد أميركا على تهديدات كوريا ولو مرة واحدة رغم تكرارها، وبروز أعمال التحدي فيها لأميركا بإطلاق الصواريخ والتجارب النووية. وبرز كذلك في تخفيف القرار الدولي أكثر من مرة في جلسة الأمم المتحدة الأخيرة 12-9-2017م؛ لينال الموافقة وعدم الاعتراض؛ وهذا يدلل أن الرد العسكري ليس في حسابات أميركا الحالية.
2- إن تكلفة هذا الصراع سوف تكون باهظة؛ عسكريًا واقتصاديًا على أميركا؛ وخاصة في ظل أزمات مالية واقتصادية لم تتعافَ منها؛ بسبب حرب العراق وأفغانستان؛ حيث يبلغ العجز في الميزانية الأميركية، حسب إحصائية وزارة التجارة الأميركية لسنة 2017م حوالى 50 مليار دولار.
3- إن طبيعة الأزمة الكورية ليس فيها تهديد للأمن القومي الأميركي، أو المصالح الحيوية بشكل مباشر، ويمكن التعامل معها عبر المنظومة الدولية، ويمكن كذلك تحقيق مكاسب سياسية بسببها ما دامت مشتعلة. وقد صرح رئيس أميركا الأسبق أوباما في خطابه الأخير بأن «أميركا ليست مستعدة لخوض حرب خارج أرضها، إلا إذا تعرض أمنها القومي، أو تعرضت مصالحها الحيوية للخطر».
لهذه الأسباب وغيرها؛ فإن هذه الأزمة تبقى ضمن دائرة الصراع الدبلوماسي والسياسي عن طريق المنظومة الدولية. ولكن رغم بقاء هذه الأزمة الدولية ضمن دائرة الدبلوماسية، والتهديدات المتبادلة، وإرسال القوات هنا وهناك، فإن هناك مخاطر وآثارًا عديدة تترتب على وجود مثل هذه الأزمات منها:
1- الأزمات الاقتصادية، فلا يخفى أن مثل هذه الأزمات تجعل الأحوال الاقتصادية مشحونة ومتهيئة لمزيد من الأزمات الاقتصادية الجديدة؛ وخاصة في سوق المال والبورصة والعملات وغير ذلك. فقد استخدمت أميركا سلاح رفع سعر الفائدة ضد الصين والاتحاد الأوروبي أكثر من مرة خلال العام الحالي، كان آخرها في تموز 2017م؛ حيث رفعت 0.25 في المائة؛ وذلك لممارسة الضغوط الاقتصادية عليها. وكذلك هددت أميركا بتشديد الإجراءات التجارية بين البلدين (وخاصة التعرفة الجمركية)؛ وقد اهتزت الأسواق المالية عدة مرات في أثناء التهديد باستخدام القوة من قبل أميركا أو كوريا. فقد ذكرت وكالة أنباء رويترز في 11-8- 2017م أن مؤشر (داو جونز) الصناعي قد انخفض 75.62 نقطة أو ما يعادل 34 في المائة؛ وذلك في ظل تهديد كوريا الشمالية بإطلاق صاروخ على (جزيرة غوام) الأميركية، في المحيط الهادي.
2- بقاء العالم في توتر وترقب دائم؛ وخاصة الدول المحيطة أو المرتبطة بالأزمة مباشرة؛ فمثل هذه الأزمات تبقي الشعوب في دائرة التوتر والترقب الدائم، وهذا بحد ذاته أزمة للشعوب بسبب فساد سياسات الدول وأطماعها.
3- حصول ردات فعل قوية من قبل شعوب الدول المحيطة، وخاصة كوريا الجنوبية واليابان؛ وهما على خط النار المباشر؛ في حال حصول أي نزاع عسكري، وإن كان ضعيف الاحتمال. وقد حصلت بالفعل تظاهرات أكثر من مرة داخل اليابان وكوريا الجنوبية تطالب بإيجاد حل سلمي للأزمة. ففي اليابان خرج آلاف المتظاهرين في 20- 6- 2016م تطالب بنقل القواعد العسكرية الأميركية من جزيرة (أوكيناوا) نتيجة تهديد كوريا بقصفها. وقد طلب رئيس كوريا الجنوبية من أميركا في 17-8-2017م عدم استخدام أي مظهر عسكري على أرضها إلا بعد أخذ الموافقة المسبقة. وقال رئيس كوريا الجنوبية: «إنّ شعب كوريا الجنوبية بذل مجهودًا كبيرًا لإعمار البلاد ونهضتها عقب حرب الكوريتين، وإنه من غير الممكن الإفراط بما تمّ إنجازه خلال السنوات السابقة».
وفي الختام نقول: بأن مثل هذه الصراعات التي تضع المبادئ الهابطة أمام أزمات حقيقية، تكشف عورتها وهبوطها الفكري والأخلاقي، وتضع العالم وشعوبه أمام حقائق منها:
1- إن هذه المبادئ تجر على العالم الويلات والحروب، والأزمات الاقتصادية والعسكرية؛ من أجل تحقيق رغبات الرأسماليين في الدول الكبرى، ولا مانع من إزهاق أرواح الملايين من الشعوب من أجل ذلك؛ كما حصل في الحرب الكورية أو فيتنام، أو العالمية الأولى والثانية، أو حرب العراق وإيران وأفغانستان.
2- إن العالم كله- بما فيه الكافر- بحاجه إلى نظام الرحمة الإلهي – نظام الإسلام – والذي ينشر فكره فقط لإنقاذ الشعوب، لا لأي مصلحة دنيوية أخرى. قال تعالى: ( وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا ١٢٥ ).
3- إن مثل هذه الصراعات تعجل في انهيار هذه المنظومات الفاسدة الواهية، قال تعالى: (وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ ٣١)، وقال عزَّ وجلَّ: ( قَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنۡيَٰنَهُم مِّنَ ٱلۡقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّقۡفُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَأَتَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ ٢٦) وإن مثل هذه لتدفع حملة الدعوة لتغيير الواقع الفاسد؛ إلى حثِّ الخطى من أجل إنقاذ البشرية، وإنها لتعجل بالفرج القريب بإذنه تعالى؛ خاصة وإن العالم اليوم يشهد الانهيارات الفكرية المتتابعة، من الاشتراكية في نهايات القرن الماضي، إلى الرأسمالية في بدايات هذا القرن…
نسأله تعالى أن يخلص البشرية من شرور هذه الدول وسياساتها الهابطة، بعدل الإسلام واستقامته ورحمته، قال تعالى: (وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩ أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ )[المائدة]
2017-11-17