مرادُ أهل الدرايةِ من معنى فرضِ الكفاية
صالح عبد الرحيم – الجزائر
للباحثين في مسألة تعريفِ وتحديدِ معنى فرضِ العين وفرض الكفاية آراء متعددة وأقوالٌ مختلفة يقصر أغلبها عن تحديد معنى فرض الكفاية بالدقة اللازمة، بل يُشعر الكثيرُ من هذه الأقوال كأن فرضَ الكفاية من حيث التكليف ليس مخاطبًا به كلُّ مسلمٍ؛ وهو ما يعطي الانطباع بأن فرض العين أهم من فرض الكفاية، وبأن الفرضَ الكفائي له أصحابه من بين عموم المسلمين، وهم من يجب أن تتوفر فيهم شروط معينة قد لا تتوفر عادةً في كل أحد!. أو كأنه لا يختص بواجب القيام به سوى طائفة من المسلمين دون غيرهم، وهو ما يوهم بالتالي كلَّ واحدٍ من أفراد الأمة أنه غير معني مباشرةً بخطاب الشارع وبالتكليف. فصار بعضُ هذه التعاريف يؤدي عكسَ ما هو مطلوب شرعًا من المسلمين، وهو القيام بواجب العمل والتطبيق والامتثال والالتزام، خصوصًا في هذا الزمان. بل صار بعضها يوهم كأن المكلَّفَ في فرض الكفاية غيُر محدد، أو أن الفرضَ توزع على المجموع بحيث لم يبقَ منه شيء. بل حتى صار كأنه لا يوجد من يقوم به!!!. فما معنى «إذا قام به البعض» التي ترد عادةً في التعريف؟ فكأن هذه العبارة توحي للسامع بأن البعض يكفي، وأنه لا داعي لاستدعاء الجميع من أجل القيام به. أو كأن مجرد التلبُّس بالعمل من هذا البعض، أي من طائفةٍ من المسلمين، يُـجزئ. ثم ما الفرق بين «قام به البعض» و«أقامه البعضُ»؟ وكذلك ما المقصود من عبارة «سقط عن الباقين»: فما الذي سقط؟. ومن هم الباقون؟. ثم إن هنالك من العلماء من قال: «إن فرضَ الكفاية هو فرضُ عين حتى يتم». وهنالك من قال: «إن فرضَ الكفاية يتحول إلى فرض عينٍ إذا لم تحصل الكفايةُ، أي ما لم يتحقق». ولكن ما هي الضوابط في كل ذلك؟. أي متى بالضبط يتحول فرضُ الكفاية إلى فرض عين؟ وهل يتحول فعلًا؟ فواضح إذًا أن المسألةَ فيها لبس وغموض، وأن التدقيق فيها بات ملحًّا.
ومن هذه التعاريف والأقوال التي وردت ضمن آراء بعض العلماء والباحثين قولهم مثلًا:
1- فرضُ الكفاية في الفقه الإسلامي أحد الأحكام الشرعية. وتعريفه في علم أصول الفقه هو: «كل أمر مهم يُقصد في الشرع تحصيلُه على وجه الإلزام، من غير تعيين فاعله». وفي علم فروع الفقه هو: «المفروض شرعًا من غير تعيين فاعله، فيثاب فاعله، وإذا تركه الجميع أثموا، وإذا فعله البعض كفى». ويسمى فرضَ كفايةٍ لأن فعلَ البعض يكفي لحصول المقصود.
2- وقال بعضهم: يتميَّز فرض العين عن الكفاية بأن فرض العين هو الذي طلب الشارع حصولَه من كل عين، أي من كل واحد من المكلفين، كالصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك، أو من عين مخصوصة كالنبي صلى الله عليه وسلم فيما فُرض عليه دون غيره. وأما فرض الكفاية فهو ما قصد الشارعُ فعلَه في الجملة، بحيث إذا عمِله البعض سقط الطلب الجازم به والإثـمُ عن الباقين، ويتناول ما هو «ديني» كصلاة الجنازة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودنيوي كالحرف والصنائع.
3- وقال آخرون: فرض الكفاية في الفقه الإسلامي هو الفرض الذي إذا أدته فئةٌ من المسلمين (كافيةٌ لصحته) سقط عن الباقي. وأما إن لم يؤدِّه العدد الكافي من المسلمين؛ فإنه يأثم كلُّ من تخلف عنه ممن علموا به ولم يكن لتخلفهم عذر. ومن أمثلة فرضِ الكفاية ما يكــون في بعض الصـلوات مثل صـلاة العيدين وصلاة الكسوف وصلاة الجنائز، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقوله تعالى: (وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤). وأيضًا تعلُّم الحِرَف مثل الحدادة والنجارة وغيرها يعتبر من فرض الكفاية وليس من فرض العين؛ لأنه لا يجب على الكل تعلمُ حرفةٍ واحدة.
4- وقال جلال الدين السيوطي رحمه الله: «الفرق بينهما أنَّ في فرض العين النظرُ أولًا وابتداءً إلى الفاعل وإلى الفعل عَرَضًا، والعكسُ في فرض الكفاية… لكن لا بد من فاعل». وقد عرّفه بما شاع عند الأصوليين، وهم قد تبعوا في ذلك الغزالي رحمه الله بقولهم:
فَرْضُ الْكِفَايَةِ مُهِمٌّ يُقْصَدُ وَنَظَـرٌ عَنْ فَاعِـلٍ مُجَرَّدُ
5- ومما ورد في رسالة أحد الطلاب في كلية الشريعة – قسم الفقه وأصوله بجامعة الإيمان في اليمن – بعنوان «الفرض الكفائي عند الأصوليين وأثره على اختلاف الفقهاء» قدمت في سنة 2008م ما يلي: «ولا يخفى على ذي لب أنَّ كثيرًا من تكاليف الدين الحنيف يتم أداؤها بصورةٍ جماعية، كالصلاة والحج والجهاد… إلخ. وكم في إقامة هذه الفروض من إراحة للضمير، وإشعار بالوحدة الإسلامية، والأخوة بين المؤمنين. وفي الوقت نفسه كم يحقق المسلمون من أهداف بإقامتها، فهي إغاظةٌ لأعداء الله، حين يرون المسلمين صفًا واحدًا في نظام سوي لا يتشتت أو يتفرق. وللأسف الشديد، أصبحت فروضُ الكفاية في زماننا متكَّأً يستند إليه كثير من الناس لتبرير تخلفهم عن أداء العبادة المطلوب أداؤها. والمعروف فقهًا وشرعًا، أن الفروضَ والتكاليف الشرعية نوعان: فروض عينية، وفروض كفائية. أما الفروض العينية: فهي التي تجب على كل إنسان بعينه، وفق استطاعته، ولا يخرج من عهدة التكليف الشرعي إلا بأدائها، والاضطلاع بها. وأما الفروض الكفائية: فهي التي يجب على الأمة تحقيقها بمجموعها، حيث لا ينجو الفرد من المسؤولية عنها، ولا يخرج من عهدة التكليف بها ما لم تحققه الأمةُ بمجموعها». انتهى.
ونظرًا لما تتطلبه هذه المسألةُ من دقة، ونظرًا لما ترتب بالفعل على الغموض واللبسِ الذي يلف هذه الأقوال ويكتنف هذه التعاريف أو بعضَها، خصوصًا في هذه الأيام، مما هو مشاهد من سلوكات المسلمين ومواقفهم تجاه قضايا الأمة في هذا الزمان، نقول:
الفرض في الشريعة الإسلامية هو ما طلب الشارعُ فعلَه طلبًا جازمًا بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركُه، وهو أحد الأحكام الشرعية من الخطاب المتعلق بأفعال العباد اقتضاءً أي تكليفًا. والفروض في الإسلام من حيث الأداء نوعان: فردية وجماعية. أما من حيث المكلَّف (أي من حيث المخاطَب بالتكليف) فهي عينية وكفائية. أما من ناحية الوجوب والإلزام، وكذا (الثواب والعقاب) فلا فرق بينها جميعًا. وهذه الناحية هي التي يُنظر إليها عادةً حين تعريف الفرض وتحديد وتأكيد معناه إجمالًا من باب تبسيط معنى وحكمِ ما طلبَ الشارعُ من العباد القيامَ به على وجه الإلزام. كما تطلق عادةً كلمةُ الفرض على ما حكمهُ في الشريعة فرض، أي على نفس الأعمال المطلوب أداؤها أو القيامُ بها أو إنجازُها أو إقامتُها، فيقال عن كل هذه الأعمال إنها فروض. ولسنا في هذا المقام بصدد النظر في تقسيمات الواجب من حيث زمن أدائه ولا من حيث تقديره أو تعيين المطلوب فيه، كما هو عند الأصوليين. إلا أن الاعتبار الأهم في المسألة – بعد الإلزام والجزم في الطلب من الشارع الحكيم – إنما هو تحديد الـمُـطالَبِ بأداء الفعل.
فالمسألة مهمة وتحتاج إلى شيء من الدقة والتفصيل: لا يختلف فرضُ الكفاية عن فرض العين إلا من حيث المكلَّف؛ وذلك أن الأول هو على المجموع، والثاني على الجميع. وهنالك فرق، كما لا يتأتى أن يكون فرضُ الكفاية إلا جماعيًا من حيث التكليف. ومعنى ذلك أن المكلَّف في الأول ليس متعينًا من بين آحاد الأمة، وإلا فالمخاطَب هو الكل. أما من حيث الإنجاز فيمكن أن يقوم بالعمل أفرادٌ أو جماعات (بحسب الحالة). أما من حيث الوجوب فهو نفسه الواجب، أي المطلوب من قِبل الشارع من العباد على وجه الإلزام، وهو عين الفرض، أي ما يثابُ فاعله ويعاقبُ تاركُه، وهو إجمالًا ما يجب نهوضُ المسلمين له جماعيًا حتى يتم، وهذا الاعتبار هنا هو المقصود.
إلا أن أكثر مسلمي هذا الزمان – رجالًا ونساءً – يتصرفون كأنهم غير معنيين بالفروض والواجبات الكفائية، متأثرين في ذلك بسموم آتية من الغرب من مثل الفردية والنفعية والانزواء والابتعاد عن الشأن العام وعن السياسة، بعدما أبعد الغربُ الإسلامَ عن الحكم وشؤون المجتمع في بلاد المسلمين. ومحصلتُه تقديمُ شؤون الفرد على أمور الجماعة، وتركُ كل ما هو جماعي من التكاليف. فأكثرهم بات يفهم فرضَ الكفاية فهمًا خاطئًا يُفضي إما إلى التفريط وإما إلى القعود. كما يعرِّفه أكثرهم تعريفًا مغلوطًا ينطوي على كثير من الوهم واللُّبس والغموض، وهو قولهم: «الذي إذا قام به البعضُ سقط عن الباقين»، وهو ما يوهم أنه لطالما وُجد من يتصدى للعمل على إقامته فيسقط التكليفُ عن غيره، مهما طال زمنُ غيابِ ما طُلب تحقيقُه!!. وهو ما يعني بالنتيجة أن المطلوبَ يصبح عندئذ كأنه ليس فرضًا في حقهم، بغض النظر عما إذا أُقيم وتحقق ما حكمُه هو هذا الفرض أم لا.
وليس الأمر كذلك في الشريعة الإسلامية البتة!! إذ صار التعريف بهذه الصيغة يعمل في الأمة عكسَ ما هو مطلوب شرعًا، بل صار يبعث على القعود أو الانصراف – في أحسن الأحوال – إلى ما هو عيني أو فردي في التطبيق كالعبادات الفردية، أو ما هو مطلوب في المطعومات والملبوسات والأخلاق مثلًا، وبالتالي إلى ترك الواجبِ الكفائي!! والصواب هو أن الذي يسقط إنما هو الإثم عمن تلبس بإقامة الفرض حالَ مباشرته العمل، أي حالَ قيامه بما يُقيمه (دون تقصير)، وليس الفرض؛ وذلك أن الذي يُراد إقامتُه إنما هو ما حكمه في الشريعة فرضٌ على المجموع، وهو المقصود من قولنا إقامة الفرض، وإلا فالفرض هو فرضٌ أبدًا. فيجب التفريق بين الفعل وحكم الفعل. كما يسقط الإثم عن غير المتلبسين (كأمرٍ واقعٍ) في ما بعد قيامِ الفرض وتحقُّـقِه على أرض الواقع وليس قبله. أما إثم عدم التلبس بالعمل على إقامة الفرض قبل إنجازه في أرض الواقع – حال عدمِ حصول الكفاية أي حال عدمِ تمكُّن العاملين من إقامته وإنجازه بالفعل – فيحتاج إلى التوبة والاستغفار والإحسانِ فيما هو آتٍ؛ لذا يكون التعريفُ الأصوب إنما هو: «الذي إذا أقامه البعضُ (بمعنى أنجزه وجسده بعضُ المسلمين في أرض الواقع، وهم مأجورون) سقط الإثم عن الباقين» أي عن غير المتلبسين، كأمرٍ واقعٍ فيما بعد إنجازه، لأنه لا اعتبار لعدم التلبس بعد تحقق المطلوب. إذ المطلوبُ في الواجب الكفائي تحققُ الفعل أي إنجازُه من الجماعة متعاوِنةً في أدائه (بصرف النظر عن الفاعل) بحيث يصير فعلُ كل واحدٍ يقوم مقامَ فعل الآخر، وبهذه المعاونَة يصير التارك فاعلًا، ويكون مَن لم يقم بالفعل فاعلًا بهذا الاعتبار!! ومفاد هذا التعريف ومؤداه أنه يبعث على النهوض للعمل وليس العكس، إذ الجماعة كلها – متعاوِنةً – مطالبةٌ به. ففرق شاسع بين التعريفين. وإذا جاز أن يُنسب السقوط إلى الفرض نفسه كما قد يوهمُ التعريفُ الأول، فلِمَ يسقط الفرضُ بعد إنجاز العمل المطلوبِ عن الباقين فحسب؟ أفلا يكون سقوطُـه عمن أقامه بالفعل من باب أولى؟. فالمقصود إذًا بالسقوط هو أنه لم يعد يترتب إثم على من كان يترتب عليه إثمُ القعود قبل إنجاز العمل. وكذلك المقصود بالسقوط هو العمل الذي طُلب القيام به بعد إقامته فعلًا (كونه أُنجز) وليس الحكم. فإذا أُقيم العملُ الذي حُكمُه فرضٌ على الكفاية، لم يعد هنالك مجال لإقامته ثانيةً. أما حكم العمل في الشريعة فيبقى أنه فرضُ كفايةٍ أبدًا.
ثم إن كون الفروض الجماعية في الإسلام هي فروضٌ عظيمة أمر ظاهر ومقرر في الفقه وفي الشريعة الإسلامية؛ لأنها هي ما يُصلح حالَ الجماعة، ويجسد حقيقةَ مجتمع المسلمين ووحدتَهم وقوتهم وعزتهم؛ إذ نجد من بينها وأعظمها واجب إقامة الإمامة الكبرى أي الخلافة التي تجسد وحدةَ الأمة وجماعةَ المسلمين. وكذا الجهاد في سبيل الله مثلًا، فهو واجب على الأمة وجوبًا جماعيًا كفائيًا يجعل من المحتم وجود ما هو أوجب منه وهو الدولة في حياة الأمة على الدوام، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهو ما يمكِّن في هذه الحالة – أي في هذا المثال – من حمل الدعوة الإسلامية حملًا سياسيًا، والإعداد للمواجهة والقتال – إن لزم – من أجل إيصال رسالةِ الإسلام إلى شعوب الأرض كافةً بعد القضاء على طواغيت الأرض من الحكام الظلَمة والملوك والجبابرة المتسلطين على رقاب البشر. وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاشتغال بالسياسة، فهو واجب على المسلمين وجوبًا جماعيًا كفائيًا على الدوام بما يمكِّن – حال غيابِ دولةِ المسلمين – من إيجاد الدولة التي تطبق الإسلامَ، أو المحافظةِ عليها وتقويمها بالأعمال السياسية من خلال المحاسبةِ وغيرها حال وجودها. ففي جميع الحالات يبقى الفرض فرضًا على المسلمين كافةً (أي على المجموع) قبل وبعد إنجاز ما حكمُهُ في شريعة الإسلام فرضُ كفاية.
وكما أن وجودَ الدولة أو غيابَها، ووجودَ المحاسبة أو عدمَها، لا يغير من حكم الاشتغال بالسياسة (الذي هو فرض على الكفاية)، فكذلك حكم الجهاد والاجتهاد مثلًا، فكلها فروض يلزم شرعًا أن تكون منجزةً في الأمة كفايةً على الدوام.
ومن معنى فرض الكفاية بداهةً ألا يكون بعد حصول الكفاية حكمُ نفس العمل واجبًا في حق الفرد الواحد بعينه إذا كان مما يتأتى له القيام به منفردًا، بل يندب؛ وذلك لأنه عندئذ يصبح من باب النافلة؛ إذ ليس هو فرضَ عينٍ على الجميع (فردًا فردًا) بل هو فرضٌ على المجموع، وقد تحقق بحصول الكفاية وتجسد على أرض الواقع بالفعل. وهذه مسألة دقيقة؛ وذلك كمحاسبة الحاكم من قِبل فردٍ بعينه حالَ وجود الدولة الإسلامية مع وجود مَن يحاسب الحاكمَ مِن الفاعلين من العلماء والأحزاب والتكتلات السياسية في الأمة كفايةً على الدوام، وكمن يريد صلاة الجنازة على من غُسِّل وصُلِّي عليه ودُفن، وكالفرد المتطوعِ في الجهاد بالنفس أو بالمال، أو بما هو منه كصناعة السلاح أو ابتكار الخطط العسكرية أو التجهيز أو التموين أو غير ذلك، مع وجود الكفاية من العدد والعدة والعتاد والتخطيط في جيوش الدولة على الثغور. ولكن مع كل ذلك يبقى التكليفُ على وجه الإلزام لمجموع الأمةِ من الشارع الحكيم في كافة الأحوال قائمًا أبدًا، وهو فرضُ الكفاية.
نقول أيضًا: أفلا يكون من الصواب – بقصد إِعمالِ معنى فرضِ الكفايةِ في أذهان المسلمين، وبالتالي في أعمالهم – إبراز أن «الفروض الكفائية» هي فروض عظيمة تتوقف استقامةُ كافة شؤون الأمة الجماعية على إقامتها، وهي من حيث الوجوب والإلزام كـ«الفروض العينية» أو «الفردية» سواء بسواء؟؟ فـيَعرف عندئذ كلُّ مسلم أنه مكلفُ ومخاطبٌ بها ضمن المجموع على وجه الإلزام حتى تقام. أي إن الطلب فيما هو فرض – وفق شروط الفرض والواجب – هو طلب جازم. أما من حيث الإنجاز – كما هو معلوم – فيمكن أن يقوم بالعمل أفرادٌ أو جماعات بحسب الحالة. ثم ألم يكن مقصود العلماء ابتداءً من تقسيم الفرضِ على هذا النحو إنما هو إبراز ما هو مطلوب في الشريعة جماعيًا، أي ما هو أدعى بأن يُستنفرَ له الجميعُ حتى يتحقق وينجز فعلًا؟
ومما ورد مختصرًا من كتاب الفكر الإسلامي (لصاحبه) في الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية ما يلي:
ولا فرق بين فرض العين والفرض على الكفاية، فكلها فرض على جميع المسلمين. فقوله: (أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ) فرض عين، وقوله (ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ) فرض على الكفاية. وقوله عليه الصلاة والسلام «إنما جعل الإمام ليؤتم به» فرض عين، وقوله «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية» فرض كفاية. كما إن التفريق بين الفرضين من جهة الوجوب إثم عند الله، وصدًّ عن سبيل الله، ومغالطة للتساهل بالقيام بفروض الله تعالى. أما من حيث سقوط الفرض عمن وجب عليه، فانه لا فرق بين فرض العين وفرض الكفاية. فلا يسقط الفرض حتى يقام العمل الذي طلبه الشارع، سواء طلب القيام به من كل مسلم كالصلاة المكتوبة، أو طلب القيام به من جميع المسلمين كبيعة الخليفة، فان كلًّا منها لا يسقط حتى يقام العمل، أي حتى تقام الصلاة، وحتى يقام الخليفة وتحصل البيعة له. ففرض الكفاية لا يسقط عن أي واحدٍ من المسلمين إذا قام بعضُهم بما يُقيمه حتى يتم قيامُه. فيبقى كل مسلم آثمًا ما دام القيام بالعمل لم يتم. وعلى ذلك من الخطأ أن يقال إن فرض الكفاية هو الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، بل فرض الكفاية هو: الذي إذا أقامه البعضُ سقط عن الباقين، وسقوطه حينئذ أمر واقعي؛ لأن العمل المطلوب قد قام, ووجد فلم يبقَ مجال لبقائه. هذا هو الفرض على الكفاية، وهو كفرض العين سواء. وعلى ذلك فإن إقامةَ دولةٍ إسلامية فرضٌ على جميع المسلمين، أي على كل مسلم من المسلمين، ولا يسقط عن أي مسلم إلا أن تقام الدولةُ الإسلامية( انتهى.
والخلاصة أن الذي قصده علماء الأمة – من أهل الفهم والدراية والاستقامة – من وضع مفهوم ومصطلح «فرض الكفاية» إنما هو إبراز أهمية ما هو مطلوب جماعيًا من المسلمين بحيث لا يجوز شرعًا الانصراف عنه حتى ينجز. وواضح أنه لا إثم على المتلبسين فعلًا بالعمل – من غير تقصير – لإقامة ما هو مطلوب مهما طال الزمن، ما داموا على ذلك. وواضح أيضًا أنه بعد إنجازه لا يعود هنالك مجال (كأمر واقع) لأن يأثمَ بسببه أحد. وواضح كذلك أن ما هو مطلوب إنجازه يكون أيضًا مطلوبٌّ الـمحافظةُ عليه وبقاؤه قائمًا، وهذا هو المقصود من قولنا إن الفرض لا يسقط. فواجب وجود الدولةِ في حياة الأمة يبقى حكمًا ثابتًا في الشريعة على الدوام. وفرضُ – أيْ حكمُ – رد السلام لا يسقط بعد رده، وإنما الذي يسقط هو رد السلام، ومعناه أنه يبقى واجبًا في حق الأمة ردُّ السلام على الدوام. فالذي يسقط بعد إنجاز العمل حقيقةً إنما هو ذلك العمل المطلوب، أي العمل المراد إنجازه في زمن ما وظرف ما، وليس الحكم. وتجدر الإشارة هنا إلى واجب التفريق بين الفعل وحكم الفعل. وكذلك واجبُ – أيْ حكمُ – صلاةِ الجنازة لا يسقط بدفن الشخص الميت، فالذي يسقط هو دفن ذلك الميت والصلاة عليه. ومعناه أنَّ على المسلمين – بمجموعهم – بشكل دائم النفورُ لدفن موتاهم كلما حصل ذلك فيهم، وليس المقصود من كون صلاة الجنازة فرضَ كفايةٍ هو فقط أنه إذا مات فرد بعينه وجب أن يجتمع لدفنه من يكفي لدفنه حتى يدفن؛ فيجب هذا وزيادة. والمحصلة أنه لا يسقط الفرضُ، أي الحكمُ، بأي حال من الأحوال، فهو في الشريعة الإسلامية فرض.
فإذا ما فُهم فرض الكفاية على هذا النحو، وإذا ما علمنا أن الفروض الشرعية، والكفائيةَ خاصة، يتوقف القيامُ بأكثرها على وجود الدولة، وحتى العبادات الجماعية (من حيث الأداء) كالجمعة وصلاة الجماعة والحج والزكاة والجهاد في سبيل الله وغير ذلك مما يستوجب القيامُ به على أكمل وأحسنِ وجهٍ وجودَ الحاكم الشرعي، علمنا أن الدولةَ الإسلاميةَ – أي دولة الخلافة – أولويةٌ قصوى في حياة الأمة الإسلامية. ومعنى هذا الكلام هو أنه مهما التزم آحادُ الأمة بما هو من مقومات الأفراد من الإسلام، أي بما يتأتى للفرد الالتزامُ به من مسائل العقيدة (علمًا وتصديقًا) ومن أحكامِ الشريعة (عملًا وتطبيقًا) بوصفه فردًا – ولو بالكثرة من أمثاله – فلن يكون ذلك حلًا للمشكلة القائمة في الأمة الإسلامية اليومَ! ولن يكون ذلك من معنى عودة الأمةِ إلى الإسلام – بوصفها أمةً – ولو بالحد الأدنى. كما أن مثلَ هذا الالتزام من الفرد المسلم فيما هو من شأنه لن يُسقط عنه من فرض العملِ من أجل استئناف الحياة الإسلامية وإيجادِ المجتمع الإسلامي شيئًا، خصوصًا في ظل الأوضاع القائمة اليوم، أي في ظل غياب دولةِ المسلمين وهيمنةِ المنظومة الاستعمارية العالمية الحالية التي يسيطر عليها الغربُ العلماني الرأسمالي الكافرُ المستعمِر المتحكمُ اليومَ في كل تفاصيل حياة الأمة الإسلامية! وهذا هو ما يفسر حال المسلمين اليومَ على جميع الصعد. وهذه هي معضلة هذا الزمان.
ولهذا، فإنه عند النظر في كيفية تغييرِ المجتمع وتصحيح حالِ الأمة، لا يصح أبدًا أن يغيب واجبُ إيجاد الدولةِ في حياة الأمة أولًا. ومن هذا يظهر بوضوح أثرُ معنى فرضِ الكفاية في تحديد ما إذا كانت الدولةُ والخلافةُ بدايةً أم نهايةً، وتحديدًا عند التفكير بوجوبِ وكيفيةِ العودة إلى الإسلام وإقامةِ الدين. وإذا ما تغيرت نظرةُ المسلمين لمفهوم فرضِ الكفاية ولمفهوم السياسة ولمفهوم الدولةِ ولمعنى وتعريفِ المجتمع على النحو المطلوب، بأن تصبح الدولةُ والسياسةُ عندهم من صميم دينهم، فإن جهود العاملين تصبح عندئذ سائرةً في الاتجاه الصحيح، بأن تتوحد في العمل السياسي المثمر، باتجاه تحرير الأمةِ من قبضة الكافرِ المستعمِر. وهو ما يعني عودةَ المسلمين إلى موقع الريادة في السياسة الدولية، وإحباطَ هيمنةِ المنظومة الرأسمالية العلمانيةٍ الغربية التي تتحكم اليومَ في كل دول وشعوبِ العالم عن طريق كل المؤسسات الغربية التابعة لمنظمةِ الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات «الدولية» الساهرة والضامنة لبقاء الاستعمار، والجالبة في بلاد المسلمين لكل أصناف التعاسة والدمار. ولن يتحقق ذلك للأمة إلا بحمل الدعوة الإسلامية في الطريق السياسي، وإعادة دولةِ الخلافة، واستئنافِ الحياة الإسلامية… وبذلك وحده ستسترجع الأمةُ ريادتـَها وقوتـها وعزتـَها بتأييد من الله تعالى في زمن قياسي!! وهذا هو عمل حزب التحرير.
وتجدر الإشارةُ هنا إلى أن هنالك من زاد – من العلماء – على مفهوم فرض العين وفرض الكفاية مصطلح «السنة العينية» وكذلك «السنة الكفائية»، وهي المطلوب من المجموع أداؤه على وجه غيرِ ملزمٍ أي على وجه الندب والاستحباب. ومثال ذلك التثليث في الوضوء فحكمه سنة عين. أما بدء الناس من جماعةٍ بالسلام فهو مندوبٌ القيام به جماعيًا أي من الجماعة فهو سنة كفاية. فإذا قام به أحدهم أو بعضُهم أجزأ. وليس هذا مما نحن بصدد معالجته في هذا المقام.