الأعمال التكتيكية، والتنازل عن الشريعة في بلاد المسلمين
2017/05/14م
المقالات
2,971 زيارة
الأعمال التكتيكية،
والتنازل عن الشريعة في بلاد المسلمين
المهندس / حسب الله النور
شهد العام 1961م تحوُّلًا هو من أكبر التحولات في السياسة الدولية، وذلك بما شهده من تنازلات كبرى، من قبل كل من الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة الأميركية؛ وذلك في مؤتمر فيينا الذي شهده خروتشوف وجون كندي، حيث تنازل الاتحاد السوفياتي عن الدولة العالمية، بينما تنازلت الولايات المتحدة عن العمل على هدم الاتحاد السوفياتي، وإزالة الشيوعية عن الوجود. وكان تنازل خروتشوف نهائيًا، مما يعد تراجعًا كبيرًا عن المبدأ الشيوعي، وقد كان اجتهادًا منه خارج النص، فكانت اللبنة التي بنى عليها ميخائيل غورباتشوف، فانتهى إلى زوال الاتحاد السوفياتي عن الوجود وإلى الأبد.
هذا العمل لا يوصف بأنه عمل تكتيكي، وإنما هو تنازل عن المبدأ، بينما عادت أميركا إلى حالة العداء مع الاتحاد السوفياتي، في أواخر أيام (كارتر)، وكل سنوات (ريجان) في الحكم، حيث صعد من الحرب الباردة والتسابق في التسلح، ما أدى إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد كسبت أميركا الرهان، ويعد عملها الأول عملًا تكتيكيًا، وهذا هو الفرق بين العمل التكتيكي، والتنازل عن المبدأ، فأميركا تصالحت مع الاتحاد السوفياتي وبينهما اختلافات مبدئية، وتفرغت للدخول في صراع سياسي محموم مع كل من فرنسا وبريطانيا لإخراجهما من مستعمراتهما السابقة، والإحلال محلهما، ولا يعتبر هذا العمل في المبدأ الرأسمالي الذي يقوم على أساس النفعية تنازلًا عن المبدأ. وكذلك دعمت أميركا الحزب الشيوعي الصيني ضد الحزب القومي الصيني، مع اختلافها العقدي مع الشيوعيين، ولا يعتبر هذا تنازلًا عن المبدأ، ولم تسمح لقائد قواتها في الحرب الكورية (مارك آرثر) بتدمير الصين في الحرب الكورية، التي انخرطت فيها الصين الشيوعية؛ وذلك لأن بقاء الصين يشق المعسكر الاشتراكي، وكان هذا أيضًا عملًا تكتيكيًا.
وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بأعمال يظهر فيها كأنها تنازلات؛ فقد عرض عليه الصلاة والسلام على قبيلة غطفان ثلث ثمار المدينة بأن يرجعوا عن تحالفهم مع قريش في موقعة الخندق. وكذلك ما شاب صلح الحديبية من تنازلات عن كتابة اسم الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يكتب اسمه دون صفته، وارجاع من أسلم بعد الصلح من المسلمين إلى مكة، ولا ينطبق ذلك على من ارتد عن الإسلام… حتى قال سيدنا عمر رضي الله عنه «لماذا نعطي الدنية في ديننا» فالفاروق اعتبره تنازلًا عن المبدأ، بينما وصفه المولى عز وجل بأنه فتح من الله، وبموجب هذه المعاهدة عزل الرسول صلى الله عليه وسلم يهود خيبر عن قريش، واستفرد بهم ثم فتح خيبر. والمدقق في ما قام به الرسول عليه الصلاة والسلام، يجد أن ذلك من الأساليب والأعمال السياسية، ولا علاقة لها بجوهر العقيدة. وهو في الحقيقة لم يقدم تنازلات، بل كسب في النهاية.
هذه المقدمة الطويلة نريد أن نستدل بها على ما يجري في بعض البلاد الإسلامية، من أعمال وتنازلات، لنرى أهي من قبيل التنازل عن المبدأ، أم هي أعمال تكتيكية، فيما يجري في فلسطين من طرف حماس، وما يحصل في تركيا ومصر وتونس، ونأخذ بشيء من التفصيل ما يجري في السودان، لما صاحبه من زخم:
أما حماس فقد قبلت بالدخول في اللعبة الديمقراطية، ففازت في الانتخابات، وفي النهاية لم تستطع أن تنادي، دعك من أن تطبق حكمًا شرعيًا واحدًا.
وهذا أردوغان، الذي فاز في جميع الانتخابات بأغلبية الثلثين، ومع ذلك لا يزال يعلن علمانية الدولة التركية، بل دعا الإخوان في مصر للحكم بالعلمانية، بالرغم من أن الشعب المصري استقبله في المطار ينادون بالخلافة الإسلامية، وقد انتهى به المطاف بأن ارتكب أكبر الخيانات، فيخذل أهل حلب، بل يسلمها للنظام المجرم، بعد قتل الآلاف من أبناء المسلمين.
أما ما جرى في تونس فهو بدعة لم نرَ مثلها من قبل، بأن يكون لحزب شق علماني للحكم، وشق إسلامي للدعوة. كل هذه التنازلات كانت استجابة للضغوط التي يمارسها الغرب على هؤلاء الساسة.
وأما قصة السودان، فأمره عجيب غريب، ومذاقه مر شديد، وخاتمتها أسى وحسرة وندامة ملأت القلوب، وذل وهوان عم القرى والحضر، فقد جاءت حكومة الإنقاذ في العام 1989م بشعارات صاخبة، ملأت بها الأرض ضجيجًا، فجيشت أهل السودان جميعًا؛ رجالًا ونساء، واندفع الشباب إلى ساحات الوغى في جنوب السودان، لا يلوون على شيء سوى الشهادة في سبيل الله، أو نصر ترفع به راية الإسلام عالية خفاقة، فما من بقعة من بقاع الجنوب، إلا وفاحت منها رائحة الشهداء، كل ذلك بدافع شعارات رفعتها حكومة الإنقاذ، من جنس: (يا حبذا الجنة واقترابها، طيبة وبارد شرابها)، ومن مثل (أميركا وروسيا قد دنا عذابها، علي إن لاقيتها ضرامها)، و(لن نذل ولن نهان، ولن نطيع الأميركان)، و(الأميركان ليكم تسلحنا)، وغيرها من الشعارات الحماسية التي عملت في أهل السودان عمل سحرة فرعون في قومهم، بل وقد منت الناس بتطبيق شرع الله في الأرض، وأن الإسلام هو الحل، وأننا لن نحيد عن شرع الله قيد أنملة، فقد صرح نائب رئيس الجمهورية السابق (علي عثمان)، وهو أبو الإنقاذ بعد الإطاحة بـ(الترابي)، حيث ذكر أن «وضع الشريعة داخل الأدراج هو السبب وراء خطوتهم لاستلام السلطة عقب اتفاق ميرغني- قرنق»، وقال بعد انفصال الجنوب: «سنحكم بالشريعة ونقطع الطريق أمام الفتنة، ونمشي بين الناس بإقامة شرع الله، وإحياء سنن دينه، وسنقيم نظامًا إسلاميًا نحكم فيه شرع الله».
وما أن جاءت المفاصلة بين الترابي وبين قادة الإنقاذ، حتى سقط أعلى الشعارات ارتفاعًا؛ (هي لله هي لله، لا للسلطة ولا للجاه)، حيث ظهر التنافس المحموم على السلطة وكراسي الحكم، وليته كان خلافًا اجتهاديًا لنجد لهم فيه عذرًا. ثم اكتمل انفصال الجنوب نتيجة حتمية لحق تقرير المصير، وبه تم تسليم رقاب أكثر من مليوني مسلم من أبناء الجنوب للكفار؛ حيث ارتد العديد منهم بعد ذلك. ثم كانت الخطوة التالية التي تعتبر تشريعًا، وذلك في الندوة التي انعقدت بدار الشرطة ببري، تحت عنوان (تحديات الخطاب الإسلامي المعاصر) والتي خاطبها علي عثمان محمد طه، نائب رئيس الجمهورية السابق؛ حيث دعا في هذه الندوة إلى مراجعة بعض الشعارات من مثل (الإسلام هو الحل)، ثم أعاد كلامه هذا في المنتدى التأسيسي الأول للحركات الإسلامية بالعاصمة الماليزية، حيث قال: «إن البرنامج الإسلامي السابق أخفق في التعامل مع قضايا المجتمع»، وقد بحث المؤتمرون إمكانية التحول من (الإسلام هو الحل) إلى الديمقراطية، وهذا يعد تنازلًا عن المبدأ، والقبول بنقيضه.
ثم انهالت علينا هذه الأيام التنازلات من كل حدب وصوب، ومن رموز وشخصيات كانوا يحسبون حصونًا منيعة لا يقدر عليهم تيار الانبطاح، فهذا قطبي المهدي يتبرأ من الشعارات ويقول، إنها شعارات تبناها الشباب لإثارة الحماس، وليس للحكومة فيها دخل، أما الأمين العام للحركة الإسلامية (الزبير محمد الحسن) فيقول: «إن هذا ليس وقت الحديث عن الشعارات التي رفعتها الحركة الإسلامية ضد أميركا». كما دعا الإعلامي المنسوب للحركة الإسلامية (حسين خوجلي) إلى ترك الأفكار التي عفا عليها الدهر، بل ذهب أبعد من ذلك، حيث دعا الرجل إلى أن نكون عملاء لأميركا «جهارًا نهارًا».
أما أخيرًا وليس آخرًا، فلم يستبعد وزير الخارجية السوداني، التطبيع مع (إسرائيل). لقد قال رئيس الجمهورية في مارس 2009م، «إذا رأيتم أميركا قد رضيت عنا فاعلموا أننا قد تنازلنا عن الشريعة»، وها هي أميركا ترفع العقوبات عن السودان، والتي تم الاحتفاء بها على كافة المستويات الرسمية، وكان ذلك بمثابة مكافأة لتعاون الحكومة التام مع أميركا في محاربة الإرهاب (الإسلام)، والمواصلة في الحوار الوطني، والتعهد بإنفاذ مخرجاته؛ التي هي إعلان للعلمانية صراحة، ووضع ما تبقى من السودان على حافة التفتيت في نسخته الثانية بعد انفصال الجنوب.
ففي أي خانة يمكن أن نضع هذه التنازلات؟ هل هي في خانة التكتيك السياسي؟! أم أنها تنازلات عن قضايا تعتبر من صلب العقيدة الإسلامية!! الإجابة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، لا تحتاج لبرهان ولا دليل، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
2017-05-14